كان من الممكن أن نتوقع أنه بعد موت عشرات الآلاف في الحرب، سيلتئم المجتمع الإسرائيلي لإجراء حساب للنفس وفحص أفعال بجدية. لكن ما جرى كان العكس.
* * *اضافة اعلان
قبل نحو أسبوعين من كتابة هذه السطور، هبطت على إسرائيل الكارثة الأكثر في تاريخها من الناحية الأخلاقية، عندما نشرت "المحكمة الجنائية الدولية" في لاهاي قرارها بإصدار مذكرتي اعتقال بحق رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن (السابق) يوآف غالانت، وأرفقت قرارها بعرض قرائن إدانة تثبت، ظاهرياً، الجرائم التي ارتكباها بحق السكان المدنيين في قطاع غزة. وقد سارع التيار المركزي في إسرائيل إلى الرد على هذا القرار بمزيج من الإنكار ورمي المحكمة بشتى الاتهامات. أما الأشخاص الأكثر ذكاء فقد استلوا الدواء السحري -تشكيل لجنة تحقيق محلية يكون من شأنها، ظاهرياً، إلغاء الحاجة إلى تحقيق تجريه المحكمة الدولية. لكن التحقيق الذاتي ليس مجرد إجراء طقسي، وإنما من المطلوب والضروري إثبات أنه يجري بنجاعة وفاعلية، الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى تقديم لوائح اتهام.
كان من المفترض أن يبادر المجتمع الذي يتمتع بحساسية تجاه ممارساته الأخلاقية، أو تجاه صورته وسمعته على الأقل، إلى إجراء مراجعة للذات ومحاسبة للنفس. وليس من المتوقع حدوث هذا هنا، لكن الحد الأدنى المطلوب هو البدء بالإصغاء إلى النقد الموجه ضد ممارسات إسرائيل في قطاع غزة بعد سنة من التجاهل الإرادي والإنكار الأعمى. وعلى المستوى الأدنى من ذلك، كان من المتوقع أن يجعل قرار المحكمة في لاهاي صناع القرار الإسرائيليين يرتدعون ويتوقفون عن التطبيق الفعلي لـ"خطة الجنرالات" في قطاع غزة، التي تؤكد اتهامات المحكمة الدولية. من النادر أن نرى مشتبهاً فيه بارتكاب جريمة ينكر الاتهامات ضده، لكنه يواصل تنفيذها فعلياً في الوقت ذاته. وحتى دون هذا الحد الأدنى، كان من المتوقع الإصغاء إلى ادعاءات رئيس هيئة أركان الجيش سابقاً، موشي يعلون، الذي لم يفعل في الحقيقة أكثر من الكشف العلني عما هو معروف للجميع: أن إسرائيل تنفذ تطهيراً عِرقياً في قطاع غزة. وقد تم رجمه هو أيضاً.
ينعكس مزاج الإنكار الذاتي والعمى الأخلاقي أيضاً في الانتقادات الموجهة إلى مقالتي المنشورة في صحيفة "هآرتس" بعنوان "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، أكثر من الأميركيين بألف ضعف" (بتاريخ 11/22) التي أثارت ردود فعل غاضبة، سواء على صفحات هذه الصحيفة أو في صحف ومواقع أخرى. وسأتوقف هنا عند بعضها.
أولاً، تجاهل النقد جوهر الحجة: كانت إسرائيل سترتدع عن تنفيذ عملية برية في قطاع غزة، كما حدث في السابق، لو أنه لم يكن يكن بمقدورها الاستفادة من الشرعية الدولية للمس بالسكان المدنيين في قطاع غزة، وبالتالي تقليل الخطر على جنود الجيش الإسرائيلي.
ثانياً، فُهم النقد على أنه موجه إلى الأرقام، وليس إلى ما تمثله. كان جوهر ادعائي بشأن "نقل الخطر" إلى مواطني قطاع غزة هو أن إسرائيل أزالت عن نفسها قيوداً كانت موجودة في الماضي وسمحت لنفسها، بالتالي، بقصف مبانٍ سكنية بشكل كثيف من أجل تصفية أعضاء "حماس" المتواجدين في تلك المباني، وإنشاء "مناطق إبادة" يكون أي إنسان يدخل إليها بمثابة هدف شرعي، حتى لو كان مدنياً. وبذلك، قللت إسرائيل بصورة جدية من حجم الخطر الذي يمكن أن يتعرض له جنودها خلال القتال البري. هذا هو الجوهر. ويستند هذا الادعاء إلى المفهوم المقبول والمُعتمَد في الأدبيات الدولية للمفاضلة بين تعريض جنودك للمخاطر ونقل الخطر إلى مواطني العدو، وهي مسألة تثير معضلات أخلاقية. وينعكس تحقيق المفاضلة في نسبة القتلى بين جنودك والقتلى بين مدنيي العدو. وبذلك تكون الأرقام هي النتيجة ولا معنى للنسبة العددية إذا كانت لا تمثل الأداء العسكري الذي هو، في هذه الحالة، نتيجة للسياسة وليس خرقاً للانضباط من جانب الجنود.
ثالثًا، نُسبَ إلي ما ليس أقل من الادعاء بأن عدد قتلانا منخفض جداً. ما الذي سيكون أكثر إقناعاً من أن ننسب إلى الكاتب رغبة في رؤية المزيد من الجنود القتلى؟ المعضلة الأخلاقية المتمثلة في السؤال المتعلقة بالحد الذي يُسمَح وفقه بتعريض جنودك للخطر لتجنب المس بالأبرياء من الطرف الآخر شغلت المجتمع في إسرائيل حتى ما بعد عملية "الجرف الصامد" في العام 2014، على الأقل. وقد ترددت أصداؤها حتى في قضية إليئور أزاريا، بعد ذلك بعامين، لكنها عادت وهدأت منذ ذلك الحين. وفي الحرب الحالية، فإن مجرد الحديث عنها، كما أظهر الخطاب الحريدي- الاستيطاني ثم خطاب منتقديّ الآن، هو ظاهرة غير مشروعة. ثمة لهذا التوجه الجديد دور حاسم في بهيميتنا في هذه الحرب، إلى درجة وضع قادتنا في قفص الاتهام في المحكمة الدولية. هذا التوجه الذي يسعى نحو "صِفر مُخاطَرة" لجنودنا يشجع على استخدام النيران بصورة غير منضبطة لا تقيم احتراماً لحصانة المدنيين. ويكفي أن نتذكر أن هذا قد تسبب فعلياً، حتى الآن، بقتل المخطوفين الإسرائيليين الثلاثة في حي الشجاعية في مدينة غزة، سامر الطلالقة، يوتام حاييم وألون شمريز، في شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي. ولو كانت القوة العسكرية أخذت مخاطرة معقولة، لما سارعت إلى إطلاق النار على أشخاص يرفعون الراية البيضاء.
ما أدعيه هو أن على الحكومة الامتناع عن شن عمليات تستوجب وضع الجنود في مخاطرة فائضة عن الضرورة والبحث لهم عن بدائل أخرى غير تعريض مدنيي العدو لأخطار مبالغ فيها. غير أن المفهوم الإسرائيلي عن القتل المنهجي لأعضاء "حماس"، إلى جانب تعريض جنودنا إلى أدنى مستوى من الخطر، أدى بصورة حتمية إلى قتل جماعي لما لا يقل عن 24 ألف امرأة وطفل ومسن في قطاع غزة. إنه لمن الديماغوجية أن يُنسَب إلي الادعاء بأن أخلاقية الجيش تقاس بعدد القتلى بين جنوده. إن الأخلاقية تقاس بمدى القتل الذي يطال الأبرياء نتيجة لطرق وأساليب العمل العسكري. وفي هذا الاختبار، فشل الجيش باسمنا. وسوف تُفسر النسبة غير العادية التي بلغت 68 غزياً قتيلاً مقابل كل جندي إسرائيلي قتيل، أساساً، بالنشاط غير الخاضع لأي قيود وليس بمهنية القوات وبمستوى العلاجات الطبية، التي تحسنت بالفعل خلال الأعوام الأخيرة. إن مقالتي تدور حول قتل المدنيين وليس حول القلة النسبية لخسائرنا.
أختم بملاحظة حول الادعاء الشائع بأن القتل مُبرَّر لأننا أكثر أخلاقية من الجيش الأميركي في العراق. في أبحاثي حول سلوك الأميركيين في العراق، لم أجد ولو علامة واحدة على سلوك مثل سلوك إسرائيل في قطاع غزة -أي القصف من الجو الذي يصادق، مسبقاً، على نسبة مرتفعة من "الضرر الجانبي" وإنشاء مناطق الإبادة. لتجسيد الفكرة، صادقت إسرائيل على ضرر جانبي يتمثل في قتل نحو 100 مدني من أجل قتل أي مسلح من "حماس" برتبة عالية، بينما صادقت الولايات المتحدة على قتل 300 فقط من أجل اغتيال مسؤول كبير بمكانة صدام حسين. والأهم من هذا أنه تبلور في الجيش الأميركي خلال الحرب استعداد لتحمل المسؤولية الأخلاقية. وتبلور، أيضاً، مفهوم اعترف بأن القتل الجماعي للمدنيين يُضعف القدرة على تحقيق هدف المهمة العسكرية. أما عندنا، فلم يحدث هذا قط. من الواضح بالطبع أن الادعاء المضاد هو أن الأميركيين لم يكونوا يدافعون عن مواطنيهم المدنيين بشكل مباشر. ولكن بسبب ذلك بالذات لم يكن مطلوباً من جندي من أريزونا أن يدافع عن عراقي في بغداد. وعلى الرغم من ذلك، تم تطبيق مثل هذه المسؤولية بصورة جزئية.
ثمة من يذكرون في انتقاداتهم حجم القتل الجماعي المكثف الذي حصل خلال استعادة مدينة الموصل في العامين 2016 - 2017. لكن الجيش العراقي السيادي هو الذي خاض تلك المعركة الدامية، أصلاً، بعد سنوات من انسحاب الولايات المتحدة من العراق، بينما كان دور الولايات المتحدة وحليفاتها من الدول الأوروبية تقديم المساعدة فقط، ما أدى في نهاية المطاف إلى أعداد أقل من القتلى. كذلك، يستعين المنتقِدون بالادعاء القائل بأن نسبة المدنيين الغزيين من بين مجمل القتلى، والتي تبلغ نحو 60 بالمائة، هي نسبة "معقولة"، باعتبار أن هذه النسبة في العراق كانت أعلى بكثير وبلغت 70 إلى 80 بالمائة. يعتمد هذا الادعاء على أرشيف المعلومات لدى "معهد ووتسون" في جامعة براون. لكن هذه المعلومات أيضاً في حاجة إلى من يجيد قراءتها. ذلك أن معظم القتلى خلال الحرب في العراق لم يُقتَلوا نتيجة استخدام القوة من جانب الولايات المتحدة وحلفائها (بمن في ذلك العراقيون أيضاً)، وإنما نتيجة الحرب بين الميليشيات العراقية. وعند تحييد المسؤولية الأميركية المباشرة، التي هي المعطى ذو الأهمية والصلة بشأن مدى تمييز جيشها ما بين المقاتلين والمدنيين، نجد أن نسبة المدنيين القتلى هي أقل من 50 بالمائة في العراق. وهي أقل من ذلك في أفغانستان.
إذا كنا لا نرغب في وضع المسؤولية عن التحقيق في أفعالنا وممارساتنا بين أيدي المحاكم الدولية، من الأفضل أن نبدأ في التوقف عن إغماض أعيننا عما يجري في قطاع غزة.
* * *اضافة اعلان
قبل نحو أسبوعين من كتابة هذه السطور، هبطت على إسرائيل الكارثة الأكثر في تاريخها من الناحية الأخلاقية، عندما نشرت "المحكمة الجنائية الدولية" في لاهاي قرارها بإصدار مذكرتي اعتقال بحق رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن (السابق) يوآف غالانت، وأرفقت قرارها بعرض قرائن إدانة تثبت، ظاهرياً، الجرائم التي ارتكباها بحق السكان المدنيين في قطاع غزة. وقد سارع التيار المركزي في إسرائيل إلى الرد على هذا القرار بمزيج من الإنكار ورمي المحكمة بشتى الاتهامات. أما الأشخاص الأكثر ذكاء فقد استلوا الدواء السحري -تشكيل لجنة تحقيق محلية يكون من شأنها، ظاهرياً، إلغاء الحاجة إلى تحقيق تجريه المحكمة الدولية. لكن التحقيق الذاتي ليس مجرد إجراء طقسي، وإنما من المطلوب والضروري إثبات أنه يجري بنجاعة وفاعلية، الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى تقديم لوائح اتهام.
كان من المفترض أن يبادر المجتمع الذي يتمتع بحساسية تجاه ممارساته الأخلاقية، أو تجاه صورته وسمعته على الأقل، إلى إجراء مراجعة للذات ومحاسبة للنفس. وليس من المتوقع حدوث هذا هنا، لكن الحد الأدنى المطلوب هو البدء بالإصغاء إلى النقد الموجه ضد ممارسات إسرائيل في قطاع غزة بعد سنة من التجاهل الإرادي والإنكار الأعمى. وعلى المستوى الأدنى من ذلك، كان من المتوقع أن يجعل قرار المحكمة في لاهاي صناع القرار الإسرائيليين يرتدعون ويتوقفون عن التطبيق الفعلي لـ"خطة الجنرالات" في قطاع غزة، التي تؤكد اتهامات المحكمة الدولية. من النادر أن نرى مشتبهاً فيه بارتكاب جريمة ينكر الاتهامات ضده، لكنه يواصل تنفيذها فعلياً في الوقت ذاته. وحتى دون هذا الحد الأدنى، كان من المتوقع الإصغاء إلى ادعاءات رئيس هيئة أركان الجيش سابقاً، موشي يعلون، الذي لم يفعل في الحقيقة أكثر من الكشف العلني عما هو معروف للجميع: أن إسرائيل تنفذ تطهيراً عِرقياً في قطاع غزة. وقد تم رجمه هو أيضاً.
ينعكس مزاج الإنكار الذاتي والعمى الأخلاقي أيضاً في الانتقادات الموجهة إلى مقالتي المنشورة في صحيفة "هآرتس" بعنوان "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، أكثر من الأميركيين بألف ضعف" (بتاريخ 11/22) التي أثارت ردود فعل غاضبة، سواء على صفحات هذه الصحيفة أو في صحف ومواقع أخرى. وسأتوقف هنا عند بعضها.
أولاً، تجاهل النقد جوهر الحجة: كانت إسرائيل سترتدع عن تنفيذ عملية برية في قطاع غزة، كما حدث في السابق، لو أنه لم يكن يكن بمقدورها الاستفادة من الشرعية الدولية للمس بالسكان المدنيين في قطاع غزة، وبالتالي تقليل الخطر على جنود الجيش الإسرائيلي.
ثانياً، فُهم النقد على أنه موجه إلى الأرقام، وليس إلى ما تمثله. كان جوهر ادعائي بشأن "نقل الخطر" إلى مواطني قطاع غزة هو أن إسرائيل أزالت عن نفسها قيوداً كانت موجودة في الماضي وسمحت لنفسها، بالتالي، بقصف مبانٍ سكنية بشكل كثيف من أجل تصفية أعضاء "حماس" المتواجدين في تلك المباني، وإنشاء "مناطق إبادة" يكون أي إنسان يدخل إليها بمثابة هدف شرعي، حتى لو كان مدنياً. وبذلك، قللت إسرائيل بصورة جدية من حجم الخطر الذي يمكن أن يتعرض له جنودها خلال القتال البري. هذا هو الجوهر. ويستند هذا الادعاء إلى المفهوم المقبول والمُعتمَد في الأدبيات الدولية للمفاضلة بين تعريض جنودك للمخاطر ونقل الخطر إلى مواطني العدو، وهي مسألة تثير معضلات أخلاقية. وينعكس تحقيق المفاضلة في نسبة القتلى بين جنودك والقتلى بين مدنيي العدو. وبذلك تكون الأرقام هي النتيجة ولا معنى للنسبة العددية إذا كانت لا تمثل الأداء العسكري الذي هو، في هذه الحالة، نتيجة للسياسة وليس خرقاً للانضباط من جانب الجنود.
ثالثًا، نُسبَ إلي ما ليس أقل من الادعاء بأن عدد قتلانا منخفض جداً. ما الذي سيكون أكثر إقناعاً من أن ننسب إلى الكاتب رغبة في رؤية المزيد من الجنود القتلى؟ المعضلة الأخلاقية المتمثلة في السؤال المتعلقة بالحد الذي يُسمَح وفقه بتعريض جنودك للخطر لتجنب المس بالأبرياء من الطرف الآخر شغلت المجتمع في إسرائيل حتى ما بعد عملية "الجرف الصامد" في العام 2014، على الأقل. وقد ترددت أصداؤها حتى في قضية إليئور أزاريا، بعد ذلك بعامين، لكنها عادت وهدأت منذ ذلك الحين. وفي الحرب الحالية، فإن مجرد الحديث عنها، كما أظهر الخطاب الحريدي- الاستيطاني ثم خطاب منتقديّ الآن، هو ظاهرة غير مشروعة. ثمة لهذا التوجه الجديد دور حاسم في بهيميتنا في هذه الحرب، إلى درجة وضع قادتنا في قفص الاتهام في المحكمة الدولية. هذا التوجه الذي يسعى نحو "صِفر مُخاطَرة" لجنودنا يشجع على استخدام النيران بصورة غير منضبطة لا تقيم احتراماً لحصانة المدنيين. ويكفي أن نتذكر أن هذا قد تسبب فعلياً، حتى الآن، بقتل المخطوفين الإسرائيليين الثلاثة في حي الشجاعية في مدينة غزة، سامر الطلالقة، يوتام حاييم وألون شمريز، في شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي. ولو كانت القوة العسكرية أخذت مخاطرة معقولة، لما سارعت إلى إطلاق النار على أشخاص يرفعون الراية البيضاء.
ما أدعيه هو أن على الحكومة الامتناع عن شن عمليات تستوجب وضع الجنود في مخاطرة فائضة عن الضرورة والبحث لهم عن بدائل أخرى غير تعريض مدنيي العدو لأخطار مبالغ فيها. غير أن المفهوم الإسرائيلي عن القتل المنهجي لأعضاء "حماس"، إلى جانب تعريض جنودنا إلى أدنى مستوى من الخطر، أدى بصورة حتمية إلى قتل جماعي لما لا يقل عن 24 ألف امرأة وطفل ومسن في قطاع غزة. إنه لمن الديماغوجية أن يُنسَب إلي الادعاء بأن أخلاقية الجيش تقاس بعدد القتلى بين جنوده. إن الأخلاقية تقاس بمدى القتل الذي يطال الأبرياء نتيجة لطرق وأساليب العمل العسكري. وفي هذا الاختبار، فشل الجيش باسمنا. وسوف تُفسر النسبة غير العادية التي بلغت 68 غزياً قتيلاً مقابل كل جندي إسرائيلي قتيل، أساساً، بالنشاط غير الخاضع لأي قيود وليس بمهنية القوات وبمستوى العلاجات الطبية، التي تحسنت بالفعل خلال الأعوام الأخيرة. إن مقالتي تدور حول قتل المدنيين وليس حول القلة النسبية لخسائرنا.
أختم بملاحظة حول الادعاء الشائع بأن القتل مُبرَّر لأننا أكثر أخلاقية من الجيش الأميركي في العراق. في أبحاثي حول سلوك الأميركيين في العراق، لم أجد ولو علامة واحدة على سلوك مثل سلوك إسرائيل في قطاع غزة -أي القصف من الجو الذي يصادق، مسبقاً، على نسبة مرتفعة من "الضرر الجانبي" وإنشاء مناطق الإبادة. لتجسيد الفكرة، صادقت إسرائيل على ضرر جانبي يتمثل في قتل نحو 100 مدني من أجل قتل أي مسلح من "حماس" برتبة عالية، بينما صادقت الولايات المتحدة على قتل 300 فقط من أجل اغتيال مسؤول كبير بمكانة صدام حسين. والأهم من هذا أنه تبلور في الجيش الأميركي خلال الحرب استعداد لتحمل المسؤولية الأخلاقية. وتبلور، أيضاً، مفهوم اعترف بأن القتل الجماعي للمدنيين يُضعف القدرة على تحقيق هدف المهمة العسكرية. أما عندنا، فلم يحدث هذا قط. من الواضح بالطبع أن الادعاء المضاد هو أن الأميركيين لم يكونوا يدافعون عن مواطنيهم المدنيين بشكل مباشر. ولكن بسبب ذلك بالذات لم يكن مطلوباً من جندي من أريزونا أن يدافع عن عراقي في بغداد. وعلى الرغم من ذلك، تم تطبيق مثل هذه المسؤولية بصورة جزئية.
ثمة من يذكرون في انتقاداتهم حجم القتل الجماعي المكثف الذي حصل خلال استعادة مدينة الموصل في العامين 2016 - 2017. لكن الجيش العراقي السيادي هو الذي خاض تلك المعركة الدامية، أصلاً، بعد سنوات من انسحاب الولايات المتحدة من العراق، بينما كان دور الولايات المتحدة وحليفاتها من الدول الأوروبية تقديم المساعدة فقط، ما أدى في نهاية المطاف إلى أعداد أقل من القتلى. كذلك، يستعين المنتقِدون بالادعاء القائل بأن نسبة المدنيين الغزيين من بين مجمل القتلى، والتي تبلغ نحو 60 بالمائة، هي نسبة "معقولة"، باعتبار أن هذه النسبة في العراق كانت أعلى بكثير وبلغت 70 إلى 80 بالمائة. يعتمد هذا الادعاء على أرشيف المعلومات لدى "معهد ووتسون" في جامعة براون. لكن هذه المعلومات أيضاً في حاجة إلى من يجيد قراءتها. ذلك أن معظم القتلى خلال الحرب في العراق لم يُقتَلوا نتيجة استخدام القوة من جانب الولايات المتحدة وحلفائها (بمن في ذلك العراقيون أيضاً)، وإنما نتيجة الحرب بين الميليشيات العراقية. وعند تحييد المسؤولية الأميركية المباشرة، التي هي المعطى ذو الأهمية والصلة بشأن مدى تمييز جيشها ما بين المقاتلين والمدنيين، نجد أن نسبة المدنيين القتلى هي أقل من 50 بالمائة في العراق. وهي أقل من ذلك في أفغانستان.
إذا كنا لا نرغب في وضع المسؤولية عن التحقيق في أفعالنا وممارساتنا بين أيدي المحاكم الدولية، من الأفضل أن نبدأ في التوقف عن إغماض أعيننا عما يجري في قطاع غزة.
*ياغيل ليفي Yagil Levy: كاتب ومحلل إسرائيلي معروف ومساهم منتظم في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية. يركز في كتاباته وتحليلاته على قضايا الأمن والمجتمع الإسرائيلي، ودور الجيش الإسرائيلي في السياسة والمجتمع. يشتهر بطرحه الناقد لسياسات الحكومة الإسرائيلية والجيش، بالإضافة إلى تناول القضايا الاجتماعية والسياسية التي تؤثر على طبيعة الدولة الإسرائيلية ومستقبلها.
0 تعليق