جوناثان كوك* - (كونسورتيوم نيوز) 21/12/2024
تعرض خرائط سورية ما بعد الأسد، مثل تلك التي ميزت الجزء الأخير من فترة رئاسته المحاصرة، خليطًا من ألوان مختلفة، حيث استولت تركيا وحلفاؤها المحليون على أراض في الشمال، ويتشبث الأكراد بالشرق، والقوات الأميركية بالجنوب، بينما يواصل الجيش الإسرائيلي اعتداءاته وتقدمه من الغرب. هذا هو السياق المناسب للإجابة عن سؤال، ما الذي سيأتي تاليًا في سورية. ويبدو أن مستقبل سورية في ظل هيئة تحرير الشام المنبثقة عن تنظيم القاعدة سيأتي بنكهتين فقط: إما أن تخضع وتتواطأ مثل الضفة الغربية، أو ينتهي بها الأمر إلى تحطيمها مثل غزة.اضافة اعلان
* * *
في الآونة الأخيرة، ظهرت موجة كاسحة من مقالات "ماذا تاليًا بالنسبة لسورية"؟ في أعقاب خروج الدكتاتور بشار الأسد على عجل من سورية، واستيلاء القوات المحلية معادة التسمية لتنظيم القاعدة على جزء كبير من البلاد.
وسارعت الحكومات ووسائل الإعلام الغربية إلى الاحتفال بالنجاح الذي حققته هيئة تحرير الشام، حتى على الرغم من أن الجماعة مصنفة كمنظمة إرهابية في الولايات المتحدة، وبريطانيا، ومعظم أوروبا. حتى أن الولايات المتحدة كانت قد وضعت في العام 2013، مكافأة قدرها 10 ملايين جنيه إسترليني على زعيمها، أبو محمد الجولاني، لتورطه مع تنظيم القاعدة وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وتنفيذه سلسلة من الهجمات الوحشية على المدنيين.
(رفعت الولايات المتحدة يوم الجمعة، 20 كانون الأول (ديسمبر) المكافأة على رأسه بعد أن التقت مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، بالجولاني في دمشق).
ذات مرة، ربما كان الجولاني قد توقع أن ينتهي به المطاف في بذلة برتقالية في منشأة الاحتجاز والتعذيب سيئة السمعة التي يديرها الأميركيون في خليج غوانتانامو. والآن يعرض نفسه كوريث سورية الظاهر، على ما يبدو بمباركة من واشنطن.
من المثير للدهشة أنه قبل أن يتم اختبار هيئة تحرير الشام أو الجولاني في أدوارهما الجديدة في الإشراف على سورية، يسارع الغرب إلى إعادة تأهيلهما. وتتحرك كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لإلغاء وضع هيئة تحرير الشام كمنظمة محظورة.
وحتى نضع السرعة غير العادية لهذا الغفران في نصابها الصحيح، يجب أن نتذكر أن نيلسون مانديلا، الذي تم تكريمه دوليًا لمساعدته في تحرير جنوب إفريقيا من حكم الفصل العنصري، تمت إزالته من قائمة مراقبة الإرهاب في واشنطن فقط في العام 2008 -أي بعد 18 عامًا من إطلاق سراحه من السجن.
وبالمثل، تساعد وسائل الإعلام الغربية الجولاني على إعادة تقديم نفسه كرجل دولة في طور التكوين، وتمسح بفرشاة فظائعه السابقة، من خلال الانتقال من استخدام اسمه الحركي إلى اسم ولادته، أحمد الشرع.
مراكمة الضغط
ساعدت قصص السجناء الذين يتم تحريرهم من زنزانات الأسد وصور العائلات التي تتدفق إلى الشوارع للاحتفال في دفع أجندة إخبارية متفائلة وإخفاء مستقبل كئيب هو الأكثر احتمالاً لسورية "المحررة" حديثًا -حيث تتنافس الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وإسرائيل، وتركيا، وبعض الدول العربية للحصول على حصة من الكعكة.
يبدو وضع سورية محتومًا كدولة فاشلة بشكل دائم. وكانت غارات القصف الإسرائيلية -التي دمرت مئات مواقع البنية التحتية الحيوية في جميع أنحاء سورية- مصممة على وجه التحديد لتحقيق هذه الغاية. في غضون أيام، كان الجيش الإسرائيلي يتفاخر بأنه دمر 80 في المائة من المنشآت العسكرية السورية. وقد ذهب المزيد منها منذ ذلك الحين.
يوم الاثنين، 16 كانون الأول (ديسمبر)، أطلقت إسرائيل العنان لـ16 ضربة على طرطوس، الميناء المهم استراتيجيًا حيث تمتلك روسيا أسطولًا بحريًا. وكانت الانفجارات قوية للغاية، وسجلت 3.5 درجة على مقياس ريختر.
خلال حكم الأسد، بررت إسرائيل بشكل أساسي هجماتها على سورية -التي نسقتها مع القوات الروسية الداعمة لدمشق- باعتبارها ضرورية لمنع تدفق الأسلحة برًا من إيران إلى حليفها اللبناني، "حزب الله". لكن هذا ليس الهدف في الوقت الحالي. فقد تعهد مقاتلو هيئة تحرير الشام السنة بإبعاد إيران و"حزب الله" -"محور المقاومة" الشيعي المناهض لإسرائيل- عن الأراضي السورية.
بدلاً من ذلك أعطت إسرائيل الأولوية لاستهداف الجيش السوري المنهك مسبقًا -طائراته، وسفنه البحرية، وراداراته، وبطارياته المضادة للطائرات ومخزوناته من الصواريخ- لتجريد البلد من أي قدرة هجومية أو دفاعية. وهكذا، أصبح أي أمل في أن تحافظ سورية على مظهر من مظاهر السيادة ينهار أمام أعيننا.
جاءت هذه الضربات الأخيرة لتكون تتويجًا لسنوات من الجهود الغربية لتقويض وحدة سورية واقتصادها. ويسيطر الجيش الأميركي على مناطق إنتاج النفط والقمح في سورية، ويقوم بنهب هذه الموارد الرئيسية بمساعدة أقلية كردية.
وعلى مستوى أكثر عمومية، فرض الغرب عقوبات قاسية على الاقتصاد السوري. وكانت هذه الضغوط بالتحديد هي التي أفرغت حكومة الأسد من محتواها وأدت إلى انهيارها. والآن، تُراكم إسرائيل المزيد من الضغط للتأكد من أن أي وافد جديد سيواجه مهمة أكثر صعوبة.
الآن، تعرض خرائط سورية ما بعد الأسد، مثل تلك التي ميزت الجزء الأخير من رئاسته المحاصرة، خليطًا من ألوان مختلفة، حيث استولت تركيا وحلفاؤها المحليون على أراض في الشمال، ويتشبث الأكراد بالشرق، والقوات الأميركية بالجنوب، بينما يواصل الجيش الإسرائيلي اعتداءاته وتقدمه من الغرب. هذا هو السياق المناسب للإجابة عن سؤال، ما الذي سيأتي تاليًا.
مصيران ممكنان
أصبحت سورية الآن دمية تلعب بها مجموعة من مصالح الدول المتحالفة بشكل غامض، والتي لا تضع أي منها مصالح سورية كدولة قوية وموحدة على رأس قائمته.
في مثل هذه الظروف، ستكون أولوية إسرائيل تعزيز الانقسامات الطائفية ومنع ظهور سلطة مركزية لتحل محل الأسد. كانت هذه هي خطة إسرائيل التي ظلت تتابعها منذ عقود، والتي شكلت بدورها تفكير نخبة السياسة الخارجية المهيمنة في واشنطن منذ صعود مَن يسمون بالمحافظين الجدد في عهد الرئيس جورج دبليو بوش في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وكان الهدف هو بلقنة أي دولة في الشرق الأوسط ترفض الخضوع للهيمنة الإسرائيلية والأميركية.
تهتم إسرائيل فقط بسورية ممزقة بسبب العداوات الداخلية وألعاب السلطة. وقد أدارت إسرائيل، ابتداء من العام 2013، برنامجًا سريًا لتسليح وتمويل ما لا يقل عن 12 فصيلاً متمردًا مختلفًا في سورية، وفقًا لمقال نشرته مجلة "فورين بوليسي" في العام 2018.
في هذا الصدد، يجري رسم مصير سورية على غرار مصير الفلسطينيين. وقد يكون هناك خيار، لكنه لن يأتي بأكثر من نكهتين. يمكن لسورية أن تصبح الضفة الغربية، أو يمكن أن تصبح غزة. وحتى الآن، تشير الدلائل إلى أن إسرائيل تتجه إلى فرض خيار غزة. ويبدو أن واشنطن وأوروبا تفضلان طريق الضفة الغربية، ولهذا ركزتا على إعادة تأهيل "هيئة تحرير الشام".
في سيناريو غزة، تواصل إسرائيل قصف سورية، وتحرم فصيل تنظيم القاعدة معاد التسمية، أو أي مجموعة أخرى، من القدرة على إدارة شؤون البلد. وبذلك يسود عدم الاستقرار والفوضى. ومع تدمير إرث الأسد من الحكم العلماني، تهيمن الخصومات الطائفية المريرة، مما يؤدي إلى ترسيخ وضع سورية كمناطق منفصلة. وهناك يتنافس أمراء الحرب المتناحرون والميليشيات والعائلات الإجرامية على الهيمنة المحلية، ويتوجه انتباههم إلى الداخل نحو تعزيز حكمهم ضد المنافسين، وليس إلى الخارج نحو إسرائيل.
"عودة إلى العصر الحجري"
لن يكون هناك جديد في هذه النتيجة بالنسبة لسورية حسب النظرة العالمية المشتركة بين إسرائيل والمحافظين الجدد. ويستند هذا التصورر إلى الدروس التي تعتقد إسرائيل أنها تعلمتها في كل من غزة ولبنان.
تحدث الجنرالات الإسرائيليون عن إعادة غزة "إلى العصر الحجري" قبل وقت طويل من أن يكونوا في وضع يسمح لهم بتحقيق هذا الهدف من خلال الإبادة الجماعية الحالية الجارية هناك. وكان هؤلاء الجنرالات أنفسهم قد اختبروا أفكارهم لأول مرة على نطاق محدود في لبنان حين قاموا بضرب البنية التحتية للبلد بموجب عقيدة "الضاحية".
اعتقدت إسرائيل أن هذه الموجات من التدمير العشوائي قدمت فائدة مزدوجة: أجبر الدمار الهائل السكان المحليين على التركيز على البقاء الأساسي بدلاً من تنظيم مقاومة؛ وعلى المدى الطويل، سوف يفهم السكان المستهدفون أنه نظرًا لقسوة العقوبة، يجب تجنب أي مقاومة مستقبلية لإسرائيل بأي ثمن.
في العام 2007، قبل أربعة أعوام من اندلاع الانتفاضة في سورية، حددت كارولين غليك، كاتبة العمود في صحيفة الـ"جيروزاليم بوست"، مصير سورية الوشيك. وأوضحت أنه يجب تدمير أي سلطة مركزية في دمشق. والمنطق وراء هذا الاقتراح: "الحكومات المركزية في جميع أنحاء العالم العربي هي المحرض الرئيسي على الكراهية العربية لإسرائيل".
وأضافت غليك: "إلى أي مدى قد تتمكن سورية من مواجهة جيش الدفاع الإسرائيلي إذا كانت تحاول في الوقت نفسه قمع تمرد شعبي؟".
أو الأفضل من ذلك، يمكن تحويل سورية إلى دولة فاشلة أخرى مثل ليبيا بعد الإطاحة بمعمر القذافي وقتله في العام 2011 بمساعدة حلف شمال الأطلسي. ومنذ ذلك الحين يدير ليبيا أمراء الحرب.
تجدر ملاحظة أن كلاً من سورية وليبيا -إلى جانب العراق والصومال والسودان ولبنان وإيران- كانتا على قائمة اغتيال وضعها مسؤولون أميركيون مقربون من إسرائيل في واشنطن مباشرة في أعقاب هجمات 11 أيلول (سبتمبر). وكلها، باستثناء إيران، هي الآن دول فاشلة أو بصدد الفشل.
مقاول أمني
النتيجة الأخرى المحتملة هي أن تصبح سورية نسخة أكبر من الضفة الغربية. وفي هذا السيناريو، تستطيع هيئة تحرير الشام والجولاني إقناع الولايات المتحدة وأوروبا بأنهما منبطحان للغاية، ومستعدان جدًا لفعل كل ما يقال لهما، بحيث لا يكون لدى إسرائيل ما تخشاه منهما.
وسيتم تصميم حكمهما على غرار حكم محمود عباس، زعيم "السلطة الفلسطينية" المكروهة في الضفة الغربية، الذي لا تتجاوز صلاحياته كثيرًا سلطات رئيس مجلس بلدي، يشرف على المدارس ويجمع القمامة.
قواته الأمنية مدججة بسلاح خفيف -قوة شرطة فعليًا- تستخدم للقمع الداخلي وغير قادرة على تحدي الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني. وقد وصف عباس خدمته لإسرائيل المتمثلة في منع الفلسطينيين من مقاومة الاضطهاد المستمر الذي يعانون منه منذ عقود بأنها "مقدسة". وقد ظهر التواطؤ النشط للسلطة الفلسطينية مرة أخرى في عطلة نهاية الأسبوع التي سبقت كتابة هذه السطور عندما قتلت قواتها الأمنية قائدًا في المقاومة في جنين كان مطلوبًا لإسرائيل.
يمكن استخدام الجولاني بالمثل، كمقاول أمني. بفضل إسرائيل إلى حد كبير، أصبحت سورية الآن دولة بلا جيش ولا بحرية ولا سلاح جو. ولديها فقط فصائل مسلحة تسليحًا خفيفًا مثل هيئة تحرير الشام، وميليشيات متمردة أخرى مثل الفصيل المسمى خطأ "الجيش الوطني السوري"، والجماعات الكردية. وتحت الوصاية المركزية الأميركية التركية، يمكن تعزيز قوة هيئة تحرير الشام، ولكن فقط بما يكفي لقمع المعارضة في سورية.
وسوف تكون لهيئة تحرير الشام صلاحيات، وإنما بموجب ترخيص. وسيعتمد بقاؤها على إبقاء الأمور هادئة بالنسبة لإسرائيل، سواء من خلال الترهيب ضد الجماعات السورية الأخرى، بما في ذلك اللاجئون الفلسطينيون، التي تهدد بمحاربة إسرائيل، أو من خلال الإبقاء على الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى التي تقاوم إسرائيل، إيران و"حزب الله"، بعيدة.
وكما هو الحال مع عباس، فإن حكم الجولاني في سورية سيكون محدودًا من ناحية الأراضي. في فلسطين، يتعين على الزعيم الفلسطيني أن يتعامل مع حقيقة أن مساحات شاسعة من الضفة الغربية قد تم اقتطاعها كمستوطنات يهودية تحت الحكم الإسرائيلي، وأنه لا يستطيع الوصول إلى الموارد الحيوية، بما في ذلك طبقات المياه الجوفية والأراضي الزراعية والمحاجر.
وفي سورية، يغلب أن تكون خارج حدود سيطرة هيئة تحرير الشام المناطق الكردية التي تسيطر عليها تركيا والولايات المتحدة، حيث يوجد الكثير من نفط البلد، بالإضافة إلى المساحة من الأراضي في جنوب غرب سورية التي غزتها إسرائيل واحتلتها بعد سقوط الأسد.
وهناك افتراض شائع على نطاق واسع بأن إسرائيل ستقوم بضم هذه الأراضي السورية لتوسيع احتلالها غير القانوني لمنطقة الجولان التي كانت قد استولت عليها من سورية في العام 1967.
"الحب" لإسرائيل
يدرك الجولاني جيدًا الخيارات التي تنتظره. وربما ليس من المستغرب أنه يبدو أكثر حرصًا على أن يصبح عباسًا سوريًا أكثر من كونه شبيهًا بيحيى السنوار؛ زعيم "حماس" الذي قتلته إسرائيل في تشرين الأول (أكتوبر).
بالنظر إلى التحول النظيف الذي قام به للخروج من المظهر العسكري، قد يتخيل الجولاني أنه يمكن أن يرتقي بنفسه في نهاية المطاف إلى مستوى المكافئ السوري للزعيم الأوكراني المدعوم من الولايات المتحدة، فولودمير زيلينسكي.
مع ذلك، كان دور زيلينسكي هو خوض حرب بالوكالة ضد روسيا نيابة عن "الناتو". ولن تقبل إسرائيل أبدًا بأن يُمنح زعيم بلد على حدودها مثل هذا النوع من العضلات العسكرية.
لم يضيع قادة الجولاني أي وقت في توضيح أنها ليست لدى إدارته أي مشكلة مع إسرائيل، وأنهم لا يريدون إثارة أعمال عدائية معها. كما تميزت الأيام الأولى من حكم هيئة تحرير الشام بشكر قادتها لإسرائيل على مساعدتها في الاستيلاء على سورية من خلال تحييد إيران و"حزب الله" في لبنان. حتى أنها كانت هناك إعلانات عن "الحب" لإسرائيل.
لم تتأثر هذه العواطف بغزو الجيش الإسرائيلي للمنطقة الكبيرة منزوعة السلاح داخل سورية بجوار الجولان المحتل، في انتهاك لاتفاق الهدنة لعام 1974. كما أنها لم تتضرر من القصف الإسرائيلي الذي لا هوادة فيه للبنية التحتية في سورية -وهو انتهاك للسيادة من النوع الذي شجبته "محكمة نورمبرغ" في نهاية الحرب العالمية الثانية باعتباره الجريمة الدولية الأكثر فداحة. وقد أشار الجولاني، في نهاية الأسبوع التي سبقت كتابة هذه السطور، إلى أن إسرائيل أمّنت مصالحها في سورية من خلال الضربات الجوية والغزو ويمكنها الآن مغادرة البلاد في سلام.
وقال لصحيفة "تايمز" اللندنية: "لا نريد أي صراع، سواء مع إسرائيل أو أي أحد آخر، ولن نسمح باستخدام سورية كمنصة انطلاق لشن هجمات (ضد إسرائيل)".
كما ذُهل مراسل للقناة الرابعة حاول الضغط على متحدث باسم هيئة تحرير الشام للتحدث عن الهجمات الإسرائيلية على سورية، من الرد. بدا عبيدة أرناؤوط كما لو أنه يتبع سيناريو تم التدرب عليه بعناية، مطمئنًا واشنطن والمسؤولين الإسرائيليين إلى أن هيئة تحرير الشام ليس لديها طموحات أكبر من التخلص من الأشياء غير المرغوب فيها أولًا بأول.
وردًا على سؤال حول نظرة هيئة تحرير الشام إلى الهجمات الإسرائيلية على سيادتها، أجاب أرناؤوط: "أولويتنا هي استعادة الأمن والخدمات، وإحياء الحياة المدنية والمؤسسات، ورعاية المدن المحررة حديثًا. هناك العديد من الأجزاء العاجلة من الحياة اليومية التي يجب استعادتها: المخابز والكهرباء والمياه والاتصالات، لذلك أولويتنا هي توفير هذه الخدمات للناس".
يبدو أن هيئة تحرير الشام غير مستعدة حتى لتقديم معارضة خطابية لجرائم الحرب الإسرائيلية على الأراضي السورية.
طموحات أوسع
كل هذا يترك إسرائيل في وضع قوي لترسيخ مكاسبها وتوسيع طموحاتها الإقليمية. وقد أعلنت إسرائيل مسبقًا عن خطط لمضاعفة عدد المستوطنين اليهود الذين يعيشون بشكل غير قانوني على الأراضي السورية المحتلة في الجولان.
في الوقت نفسه، ناشدت المجتمعات السورية التي خضعت حديثًا للحكم العسكري الإسرائيلي -في المناطق التي غزتها إسرائيل منذ سقوط الأسد- حكومتها الاسمية في دمشق والدول العربية الأخرى لإقناع إسرائيل بالانسحاب. وهم يخشون، لسبب وجيه، أن يواجهوا احتلالاً إسرائيليًا دائمًا.
كما هو متوقع، فإن نفس النخب الغربية الغاضبة من انتهاكات روسيا لوحدة أراضي أوكرانيا لدرجة أنها أمضت ثلاث سنوات في تسليح كييف في حرب بالوكالة ضد موسكو -مع المخاطرة بإثارة مواجهة نووية محتملة- لم تعبر عن أي قلق من انتهاكات إسرائيل المتزايدة لوحدة أراضي سورية. مرة أخرى، هناك قواعد خاصة لإسرائيل، وهناك قواعد أخرى للتعامل مع أي طرف تعتبره واشنطن عدوًا.
الآن، مع خروج الدفاعات الجوية السورية من الطريق، أصبح لدى إسرائيل الآن طريق مفتوح إلى إيران لتقوم -إما بمفردها أو بمساعدة الولايات المتحدة- بمهاجمة الهدف الأخير على قائمة المحافظين الجدد المكونة من سبع دول منذ العام 2001. وقد نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية بحماس التقارير عن الاستعدادات لتوجيه ضربة، في حين يقال إن الفريق الانتقالي الذي يعمل لصالح الرئيس الأميركي القادم دونالد ترامب يفكر بجدية في الانضمام إلى مثل هذه العملية.
وفوق كل ذلك، يبدو أن إسرائيل قد تكون أخيرًا على وشك التوقيع على اتفاق علاقات "طبيعية" مع الدولة الرئيسية الأخرى الحليفة لواشنطن في المنطقة -وهو المسعى الذي اضطر إلى التوقف عقب الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة. والآن، أصبح تجديد بحث تطبيع العلاقات معها ممكنًا مرة أخرى إلى حد كبير لأن تغطية سورية أخفت الإبادة الجماعية في غزة من أجندة الأخبار الغربية، على الرغم من أن الفلسطينيين هناك -الذين تقوم إسرائيل بتجويعهم وقصفهم على مدى أكثر من 14 شهرًا- قد يموتون بأعداد أكبر من أي وقت مضى.
تهيمن رواية "تحرير" سورية حاليًا على التغطية الإخبارية الغربية. ولكن، حتى الآن يبدو أن استيلاء هيئة تحرير الشام على دمشق حرر إسرائيل فقط، وجعلها أكثر حرية في التنمر على جيرانها وإجبارهم على الخضوع.
تعرض خرائط سورية ما بعد الأسد، مثل تلك التي ميزت الجزء الأخير من فترة رئاسته المحاصرة، خليطًا من ألوان مختلفة، حيث استولت تركيا وحلفاؤها المحليون على أراض في الشمال، ويتشبث الأكراد بالشرق، والقوات الأميركية بالجنوب، بينما يواصل الجيش الإسرائيلي اعتداءاته وتقدمه من الغرب. هذا هو السياق المناسب للإجابة عن سؤال، ما الذي سيأتي تاليًا في سورية. ويبدو أن مستقبل سورية في ظل هيئة تحرير الشام المنبثقة عن تنظيم القاعدة سيأتي بنكهتين فقط: إما أن تخضع وتتواطأ مثل الضفة الغربية، أو ينتهي بها الأمر إلى تحطيمها مثل غزة.اضافة اعلان
* * *
في الآونة الأخيرة، ظهرت موجة كاسحة من مقالات "ماذا تاليًا بالنسبة لسورية"؟ في أعقاب خروج الدكتاتور بشار الأسد على عجل من سورية، واستيلاء القوات المحلية معادة التسمية لتنظيم القاعدة على جزء كبير من البلاد.
وسارعت الحكومات ووسائل الإعلام الغربية إلى الاحتفال بالنجاح الذي حققته هيئة تحرير الشام، حتى على الرغم من أن الجماعة مصنفة كمنظمة إرهابية في الولايات المتحدة، وبريطانيا، ومعظم أوروبا. حتى أن الولايات المتحدة كانت قد وضعت في العام 2013، مكافأة قدرها 10 ملايين جنيه إسترليني على زعيمها، أبو محمد الجولاني، لتورطه مع تنظيم القاعدة وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وتنفيذه سلسلة من الهجمات الوحشية على المدنيين.
(رفعت الولايات المتحدة يوم الجمعة، 20 كانون الأول (ديسمبر) المكافأة على رأسه بعد أن التقت مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، بالجولاني في دمشق).
ذات مرة، ربما كان الجولاني قد توقع أن ينتهي به المطاف في بذلة برتقالية في منشأة الاحتجاز والتعذيب سيئة السمعة التي يديرها الأميركيون في خليج غوانتانامو. والآن يعرض نفسه كوريث سورية الظاهر، على ما يبدو بمباركة من واشنطن.
من المثير للدهشة أنه قبل أن يتم اختبار هيئة تحرير الشام أو الجولاني في أدوارهما الجديدة في الإشراف على سورية، يسارع الغرب إلى إعادة تأهيلهما. وتتحرك كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لإلغاء وضع هيئة تحرير الشام كمنظمة محظورة.
وحتى نضع السرعة غير العادية لهذا الغفران في نصابها الصحيح، يجب أن نتذكر أن نيلسون مانديلا، الذي تم تكريمه دوليًا لمساعدته في تحرير جنوب إفريقيا من حكم الفصل العنصري، تمت إزالته من قائمة مراقبة الإرهاب في واشنطن فقط في العام 2008 -أي بعد 18 عامًا من إطلاق سراحه من السجن.
وبالمثل، تساعد وسائل الإعلام الغربية الجولاني على إعادة تقديم نفسه كرجل دولة في طور التكوين، وتمسح بفرشاة فظائعه السابقة، من خلال الانتقال من استخدام اسمه الحركي إلى اسم ولادته، أحمد الشرع.
مراكمة الضغط
ساعدت قصص السجناء الذين يتم تحريرهم من زنزانات الأسد وصور العائلات التي تتدفق إلى الشوارع للاحتفال في دفع أجندة إخبارية متفائلة وإخفاء مستقبل كئيب هو الأكثر احتمالاً لسورية "المحررة" حديثًا -حيث تتنافس الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وإسرائيل، وتركيا، وبعض الدول العربية للحصول على حصة من الكعكة.
يبدو وضع سورية محتومًا كدولة فاشلة بشكل دائم. وكانت غارات القصف الإسرائيلية -التي دمرت مئات مواقع البنية التحتية الحيوية في جميع أنحاء سورية- مصممة على وجه التحديد لتحقيق هذه الغاية. في غضون أيام، كان الجيش الإسرائيلي يتفاخر بأنه دمر 80 في المائة من المنشآت العسكرية السورية. وقد ذهب المزيد منها منذ ذلك الحين.
يوم الاثنين، 16 كانون الأول (ديسمبر)، أطلقت إسرائيل العنان لـ16 ضربة على طرطوس، الميناء المهم استراتيجيًا حيث تمتلك روسيا أسطولًا بحريًا. وكانت الانفجارات قوية للغاية، وسجلت 3.5 درجة على مقياس ريختر.
خلال حكم الأسد، بررت إسرائيل بشكل أساسي هجماتها على سورية -التي نسقتها مع القوات الروسية الداعمة لدمشق- باعتبارها ضرورية لمنع تدفق الأسلحة برًا من إيران إلى حليفها اللبناني، "حزب الله". لكن هذا ليس الهدف في الوقت الحالي. فقد تعهد مقاتلو هيئة تحرير الشام السنة بإبعاد إيران و"حزب الله" -"محور المقاومة" الشيعي المناهض لإسرائيل- عن الأراضي السورية.
بدلاً من ذلك أعطت إسرائيل الأولوية لاستهداف الجيش السوري المنهك مسبقًا -طائراته، وسفنه البحرية، وراداراته، وبطارياته المضادة للطائرات ومخزوناته من الصواريخ- لتجريد البلد من أي قدرة هجومية أو دفاعية. وهكذا، أصبح أي أمل في أن تحافظ سورية على مظهر من مظاهر السيادة ينهار أمام أعيننا.
جاءت هذه الضربات الأخيرة لتكون تتويجًا لسنوات من الجهود الغربية لتقويض وحدة سورية واقتصادها. ويسيطر الجيش الأميركي على مناطق إنتاج النفط والقمح في سورية، ويقوم بنهب هذه الموارد الرئيسية بمساعدة أقلية كردية.
وعلى مستوى أكثر عمومية، فرض الغرب عقوبات قاسية على الاقتصاد السوري. وكانت هذه الضغوط بالتحديد هي التي أفرغت حكومة الأسد من محتواها وأدت إلى انهيارها. والآن، تُراكم إسرائيل المزيد من الضغط للتأكد من أن أي وافد جديد سيواجه مهمة أكثر صعوبة.
الآن، تعرض خرائط سورية ما بعد الأسد، مثل تلك التي ميزت الجزء الأخير من رئاسته المحاصرة، خليطًا من ألوان مختلفة، حيث استولت تركيا وحلفاؤها المحليون على أراض في الشمال، ويتشبث الأكراد بالشرق، والقوات الأميركية بالجنوب، بينما يواصل الجيش الإسرائيلي اعتداءاته وتقدمه من الغرب. هذا هو السياق المناسب للإجابة عن سؤال، ما الذي سيأتي تاليًا.
مصيران ممكنان
أصبحت سورية الآن دمية تلعب بها مجموعة من مصالح الدول المتحالفة بشكل غامض، والتي لا تضع أي منها مصالح سورية كدولة قوية وموحدة على رأس قائمته.
في مثل هذه الظروف، ستكون أولوية إسرائيل تعزيز الانقسامات الطائفية ومنع ظهور سلطة مركزية لتحل محل الأسد. كانت هذه هي خطة إسرائيل التي ظلت تتابعها منذ عقود، والتي شكلت بدورها تفكير نخبة السياسة الخارجية المهيمنة في واشنطن منذ صعود مَن يسمون بالمحافظين الجدد في عهد الرئيس جورج دبليو بوش في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وكان الهدف هو بلقنة أي دولة في الشرق الأوسط ترفض الخضوع للهيمنة الإسرائيلية والأميركية.
تهتم إسرائيل فقط بسورية ممزقة بسبب العداوات الداخلية وألعاب السلطة. وقد أدارت إسرائيل، ابتداء من العام 2013، برنامجًا سريًا لتسليح وتمويل ما لا يقل عن 12 فصيلاً متمردًا مختلفًا في سورية، وفقًا لمقال نشرته مجلة "فورين بوليسي" في العام 2018.
في هذا الصدد، يجري رسم مصير سورية على غرار مصير الفلسطينيين. وقد يكون هناك خيار، لكنه لن يأتي بأكثر من نكهتين. يمكن لسورية أن تصبح الضفة الغربية، أو يمكن أن تصبح غزة. وحتى الآن، تشير الدلائل إلى أن إسرائيل تتجه إلى فرض خيار غزة. ويبدو أن واشنطن وأوروبا تفضلان طريق الضفة الغربية، ولهذا ركزتا على إعادة تأهيل "هيئة تحرير الشام".
في سيناريو غزة، تواصل إسرائيل قصف سورية، وتحرم فصيل تنظيم القاعدة معاد التسمية، أو أي مجموعة أخرى، من القدرة على إدارة شؤون البلد. وبذلك يسود عدم الاستقرار والفوضى. ومع تدمير إرث الأسد من الحكم العلماني، تهيمن الخصومات الطائفية المريرة، مما يؤدي إلى ترسيخ وضع سورية كمناطق منفصلة. وهناك يتنافس أمراء الحرب المتناحرون والميليشيات والعائلات الإجرامية على الهيمنة المحلية، ويتوجه انتباههم إلى الداخل نحو تعزيز حكمهم ضد المنافسين، وليس إلى الخارج نحو إسرائيل.
"عودة إلى العصر الحجري"
لن يكون هناك جديد في هذه النتيجة بالنسبة لسورية حسب النظرة العالمية المشتركة بين إسرائيل والمحافظين الجدد. ويستند هذا التصورر إلى الدروس التي تعتقد إسرائيل أنها تعلمتها في كل من غزة ولبنان.
تحدث الجنرالات الإسرائيليون عن إعادة غزة "إلى العصر الحجري" قبل وقت طويل من أن يكونوا في وضع يسمح لهم بتحقيق هذا الهدف من خلال الإبادة الجماعية الحالية الجارية هناك. وكان هؤلاء الجنرالات أنفسهم قد اختبروا أفكارهم لأول مرة على نطاق محدود في لبنان حين قاموا بضرب البنية التحتية للبلد بموجب عقيدة "الضاحية".
اعتقدت إسرائيل أن هذه الموجات من التدمير العشوائي قدمت فائدة مزدوجة: أجبر الدمار الهائل السكان المحليين على التركيز على البقاء الأساسي بدلاً من تنظيم مقاومة؛ وعلى المدى الطويل، سوف يفهم السكان المستهدفون أنه نظرًا لقسوة العقوبة، يجب تجنب أي مقاومة مستقبلية لإسرائيل بأي ثمن.
في العام 2007، قبل أربعة أعوام من اندلاع الانتفاضة في سورية، حددت كارولين غليك، كاتبة العمود في صحيفة الـ"جيروزاليم بوست"، مصير سورية الوشيك. وأوضحت أنه يجب تدمير أي سلطة مركزية في دمشق. والمنطق وراء هذا الاقتراح: "الحكومات المركزية في جميع أنحاء العالم العربي هي المحرض الرئيسي على الكراهية العربية لإسرائيل".
وأضافت غليك: "إلى أي مدى قد تتمكن سورية من مواجهة جيش الدفاع الإسرائيلي إذا كانت تحاول في الوقت نفسه قمع تمرد شعبي؟".
أو الأفضل من ذلك، يمكن تحويل سورية إلى دولة فاشلة أخرى مثل ليبيا بعد الإطاحة بمعمر القذافي وقتله في العام 2011 بمساعدة حلف شمال الأطلسي. ومنذ ذلك الحين يدير ليبيا أمراء الحرب.
تجدر ملاحظة أن كلاً من سورية وليبيا -إلى جانب العراق والصومال والسودان ولبنان وإيران- كانتا على قائمة اغتيال وضعها مسؤولون أميركيون مقربون من إسرائيل في واشنطن مباشرة في أعقاب هجمات 11 أيلول (سبتمبر). وكلها، باستثناء إيران، هي الآن دول فاشلة أو بصدد الفشل.
مقاول أمني
النتيجة الأخرى المحتملة هي أن تصبح سورية نسخة أكبر من الضفة الغربية. وفي هذا السيناريو، تستطيع هيئة تحرير الشام والجولاني إقناع الولايات المتحدة وأوروبا بأنهما منبطحان للغاية، ومستعدان جدًا لفعل كل ما يقال لهما، بحيث لا يكون لدى إسرائيل ما تخشاه منهما.
وسيتم تصميم حكمهما على غرار حكم محمود عباس، زعيم "السلطة الفلسطينية" المكروهة في الضفة الغربية، الذي لا تتجاوز صلاحياته كثيرًا سلطات رئيس مجلس بلدي، يشرف على المدارس ويجمع القمامة.
قواته الأمنية مدججة بسلاح خفيف -قوة شرطة فعليًا- تستخدم للقمع الداخلي وغير قادرة على تحدي الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني. وقد وصف عباس خدمته لإسرائيل المتمثلة في منع الفلسطينيين من مقاومة الاضطهاد المستمر الذي يعانون منه منذ عقود بأنها "مقدسة". وقد ظهر التواطؤ النشط للسلطة الفلسطينية مرة أخرى في عطلة نهاية الأسبوع التي سبقت كتابة هذه السطور عندما قتلت قواتها الأمنية قائدًا في المقاومة في جنين كان مطلوبًا لإسرائيل.
يمكن استخدام الجولاني بالمثل، كمقاول أمني. بفضل إسرائيل إلى حد كبير، أصبحت سورية الآن دولة بلا جيش ولا بحرية ولا سلاح جو. ولديها فقط فصائل مسلحة تسليحًا خفيفًا مثل هيئة تحرير الشام، وميليشيات متمردة أخرى مثل الفصيل المسمى خطأ "الجيش الوطني السوري"، والجماعات الكردية. وتحت الوصاية المركزية الأميركية التركية، يمكن تعزيز قوة هيئة تحرير الشام، ولكن فقط بما يكفي لقمع المعارضة في سورية.
وسوف تكون لهيئة تحرير الشام صلاحيات، وإنما بموجب ترخيص. وسيعتمد بقاؤها على إبقاء الأمور هادئة بالنسبة لإسرائيل، سواء من خلال الترهيب ضد الجماعات السورية الأخرى، بما في ذلك اللاجئون الفلسطينيون، التي تهدد بمحاربة إسرائيل، أو من خلال الإبقاء على الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى التي تقاوم إسرائيل، إيران و"حزب الله"، بعيدة.
وكما هو الحال مع عباس، فإن حكم الجولاني في سورية سيكون محدودًا من ناحية الأراضي. في فلسطين، يتعين على الزعيم الفلسطيني أن يتعامل مع حقيقة أن مساحات شاسعة من الضفة الغربية قد تم اقتطاعها كمستوطنات يهودية تحت الحكم الإسرائيلي، وأنه لا يستطيع الوصول إلى الموارد الحيوية، بما في ذلك طبقات المياه الجوفية والأراضي الزراعية والمحاجر.
وفي سورية، يغلب أن تكون خارج حدود سيطرة هيئة تحرير الشام المناطق الكردية التي تسيطر عليها تركيا والولايات المتحدة، حيث يوجد الكثير من نفط البلد، بالإضافة إلى المساحة من الأراضي في جنوب غرب سورية التي غزتها إسرائيل واحتلتها بعد سقوط الأسد.
وهناك افتراض شائع على نطاق واسع بأن إسرائيل ستقوم بضم هذه الأراضي السورية لتوسيع احتلالها غير القانوني لمنطقة الجولان التي كانت قد استولت عليها من سورية في العام 1967.
"الحب" لإسرائيل
يدرك الجولاني جيدًا الخيارات التي تنتظره. وربما ليس من المستغرب أنه يبدو أكثر حرصًا على أن يصبح عباسًا سوريًا أكثر من كونه شبيهًا بيحيى السنوار؛ زعيم "حماس" الذي قتلته إسرائيل في تشرين الأول (أكتوبر).
بالنظر إلى التحول النظيف الذي قام به للخروج من المظهر العسكري، قد يتخيل الجولاني أنه يمكن أن يرتقي بنفسه في نهاية المطاف إلى مستوى المكافئ السوري للزعيم الأوكراني المدعوم من الولايات المتحدة، فولودمير زيلينسكي.
مع ذلك، كان دور زيلينسكي هو خوض حرب بالوكالة ضد روسيا نيابة عن "الناتو". ولن تقبل إسرائيل أبدًا بأن يُمنح زعيم بلد على حدودها مثل هذا النوع من العضلات العسكرية.
لم يضيع قادة الجولاني أي وقت في توضيح أنها ليست لدى إدارته أي مشكلة مع إسرائيل، وأنهم لا يريدون إثارة أعمال عدائية معها. كما تميزت الأيام الأولى من حكم هيئة تحرير الشام بشكر قادتها لإسرائيل على مساعدتها في الاستيلاء على سورية من خلال تحييد إيران و"حزب الله" في لبنان. حتى أنها كانت هناك إعلانات عن "الحب" لإسرائيل.
لم تتأثر هذه العواطف بغزو الجيش الإسرائيلي للمنطقة الكبيرة منزوعة السلاح داخل سورية بجوار الجولان المحتل، في انتهاك لاتفاق الهدنة لعام 1974. كما أنها لم تتضرر من القصف الإسرائيلي الذي لا هوادة فيه للبنية التحتية في سورية -وهو انتهاك للسيادة من النوع الذي شجبته "محكمة نورمبرغ" في نهاية الحرب العالمية الثانية باعتباره الجريمة الدولية الأكثر فداحة. وقد أشار الجولاني، في نهاية الأسبوع التي سبقت كتابة هذه السطور، إلى أن إسرائيل أمّنت مصالحها في سورية من خلال الضربات الجوية والغزو ويمكنها الآن مغادرة البلاد في سلام.
وقال لصحيفة "تايمز" اللندنية: "لا نريد أي صراع، سواء مع إسرائيل أو أي أحد آخر، ولن نسمح باستخدام سورية كمنصة انطلاق لشن هجمات (ضد إسرائيل)".
كما ذُهل مراسل للقناة الرابعة حاول الضغط على متحدث باسم هيئة تحرير الشام للتحدث عن الهجمات الإسرائيلية على سورية، من الرد. بدا عبيدة أرناؤوط كما لو أنه يتبع سيناريو تم التدرب عليه بعناية، مطمئنًا واشنطن والمسؤولين الإسرائيليين إلى أن هيئة تحرير الشام ليس لديها طموحات أكبر من التخلص من الأشياء غير المرغوب فيها أولًا بأول.
وردًا على سؤال حول نظرة هيئة تحرير الشام إلى الهجمات الإسرائيلية على سيادتها، أجاب أرناؤوط: "أولويتنا هي استعادة الأمن والخدمات، وإحياء الحياة المدنية والمؤسسات، ورعاية المدن المحررة حديثًا. هناك العديد من الأجزاء العاجلة من الحياة اليومية التي يجب استعادتها: المخابز والكهرباء والمياه والاتصالات، لذلك أولويتنا هي توفير هذه الخدمات للناس".
يبدو أن هيئة تحرير الشام غير مستعدة حتى لتقديم معارضة خطابية لجرائم الحرب الإسرائيلية على الأراضي السورية.
طموحات أوسع
كل هذا يترك إسرائيل في وضع قوي لترسيخ مكاسبها وتوسيع طموحاتها الإقليمية. وقد أعلنت إسرائيل مسبقًا عن خطط لمضاعفة عدد المستوطنين اليهود الذين يعيشون بشكل غير قانوني على الأراضي السورية المحتلة في الجولان.
في الوقت نفسه، ناشدت المجتمعات السورية التي خضعت حديثًا للحكم العسكري الإسرائيلي -في المناطق التي غزتها إسرائيل منذ سقوط الأسد- حكومتها الاسمية في دمشق والدول العربية الأخرى لإقناع إسرائيل بالانسحاب. وهم يخشون، لسبب وجيه، أن يواجهوا احتلالاً إسرائيليًا دائمًا.
كما هو متوقع، فإن نفس النخب الغربية الغاضبة من انتهاكات روسيا لوحدة أراضي أوكرانيا لدرجة أنها أمضت ثلاث سنوات في تسليح كييف في حرب بالوكالة ضد موسكو -مع المخاطرة بإثارة مواجهة نووية محتملة- لم تعبر عن أي قلق من انتهاكات إسرائيل المتزايدة لوحدة أراضي سورية. مرة أخرى، هناك قواعد خاصة لإسرائيل، وهناك قواعد أخرى للتعامل مع أي طرف تعتبره واشنطن عدوًا.
الآن، مع خروج الدفاعات الجوية السورية من الطريق، أصبح لدى إسرائيل الآن طريق مفتوح إلى إيران لتقوم -إما بمفردها أو بمساعدة الولايات المتحدة- بمهاجمة الهدف الأخير على قائمة المحافظين الجدد المكونة من سبع دول منذ العام 2001. وقد نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية بحماس التقارير عن الاستعدادات لتوجيه ضربة، في حين يقال إن الفريق الانتقالي الذي يعمل لصالح الرئيس الأميركي القادم دونالد ترامب يفكر بجدية في الانضمام إلى مثل هذه العملية.
وفوق كل ذلك، يبدو أن إسرائيل قد تكون أخيرًا على وشك التوقيع على اتفاق علاقات "طبيعية" مع الدولة الرئيسية الأخرى الحليفة لواشنطن في المنطقة -وهو المسعى الذي اضطر إلى التوقف عقب الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة. والآن، أصبح تجديد بحث تطبيع العلاقات معها ممكنًا مرة أخرى إلى حد كبير لأن تغطية سورية أخفت الإبادة الجماعية في غزة من أجندة الأخبار الغربية، على الرغم من أن الفلسطينيين هناك -الذين تقوم إسرائيل بتجويعهم وقصفهم على مدى أكثر من 14 شهرًا- قد يموتون بأعداد أكبر من أي وقت مضى.
تهيمن رواية "تحرير" سورية حاليًا على التغطية الإخبارية الغربية. ولكن، حتى الآن يبدو أن استيلاء هيئة تحرير الشام على دمشق حرر إسرائيل فقط، وجعلها أكثر حرية في التنمر على جيرانها وإجبارهم على الخضوع.
*جوناثان كوك Jonathan Cook: صحفي بريطاني حائز على جوائز. كان يقيم في الناصرة لمدة 20 عاما. عاد إلى المملكة المتحدة في العام 2021، وهو مؤلف ثلاثة كتب عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني: "الدم والدين: كشف القناع عن الدولة اليهودية" Blood and Religion: The Unmasking of the Jewish State، (2006)، "إسرائيل وصراع الحضارات: العراق وإيران وخطة إعادة تشكيل الشرق الأوسط" Israel and the Clash of Civilisations: Iraq, Iran and the Plan to Remake the Middle East ، (2008)؛ و"فلسطين المتلاشية: تجارب إسرائيل في البؤس البشري" Disappearing Palestine: Israel’s Experiments in Human Despair، (2008).
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Israel Not the ‘Liberators,’ Will Decide Syria’s Fate
0 تعليق