هناك حَرْب ضَرُوس تدور رحاها بين وزارات الخزانة والمالية والتجارة والعدل والأجهزة الأمنية واللجان التشريعية، في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، وبين البنك المركزي والمشرعين والبنوك والشركات الروسية، ومن ضمنها الشركات المتخصصة في تعدين العملات المشفرة، في روسيا الاتحادية.
أمريكا وبريطانيا تسعيان بشتى السبل إلى إحكام طوق العقوبات الاقتصادية والمالية والنقدية على الشركات والأفراد الروس، وروسيا من جانبها تعمل بشتى السبل لمراوغة هذه العقوبات والتغلب عليها، سواءً من خلال العملة الرقمية للبنك المركزي الروسي (CBDC)، أو باستخدام العملات المشفرة في عمليات المقاصة المالية الدولية.
على مدار العامين ونصف العام الماضيين، كان بنك روسيا يجرب عملة رقمية للبنك المركزي (CBDC)، بما في ذلك التاريخ المقترح (يوليو 2025) لبدء «الطرح الشامل» للروبل الرقمي. في عام 2021 أعلن البنك أن 12 بنكاً ستشارك في الاختبار الأوّلي لعملته الرقمية، وفي فبراير 2022، أكمل اثنان من البنوك دورة من التحويلات الرقمية للروبل بين الأفراد، وسجل 20 بنكاً آخر للمشاركة في الورشة، إضافة إلى مشاركة تسعة آلاف فرد (600 سابقاً) و1200 شركة تجارية وخدماتية (22 سابقاً). وقدم البنك المركزي الروسي للبنوك تطبيقاً برمجياً لدمج تطبيقاتها المحمولة مع منصة الروبل الرقمي. حيث ستعمل العملة الرقمية للبنك المركزي من خلال رمز الاستجابة السريعة (QR) المماثل للرمز المستخدم في نظام المدفوعات الأسرع في روسيا (Faster Payments System - SBP) - وهي خدمة تسمح للأشخاص بإجراء تحويلات بين البنوك باستخدام رقم الهاتف المحمول. وبحلول الموعد النهائي (الأول من يوليو 2025)، سيكون 13 بنكاً رئيسياً ملزماً بتأمين الفرصة للعملاء بإجراء معاملات بالروبل الرقمي، أي فتح حسابات بالروبل الرقمي وإيداع النقود فيها، وإجراء تحويلات مالية، وكذلك تلقي الروبل الرقمي عبر البنية التحتية ذات الصلة التي صممها البنك.
في عام 2023، مهدت روسيا الطريق أمام عملتها الرقمية الروبل، التي ستساعدها على التغلب على العقوبات الغربية وتخلق مشكلة للنظام المالي العالمي الذي يتمحور حول الدولار الأمريكي. وبحسب أناتولي أكساكوف، الذي شارك في تأليف تشريع الروبل الرقمي، «إن العملة الرقمية للبنك المركزي ستساعد روسيا على حماية نفسها من العقوبات وتنفيذ التسويات مع الدول الأجنبية والشركات الأجنبية». وإذا ما بوشر باستخدام الروبل الرقمي للبنك المركزي الروسي في المعاملات الدولية، فسيعمل ذلك على تسهيل المدفوعات دون تدخل البنوك التجارية الأجنبية أو البنية التحتية المالية الغربية، مثل نظام الرسائل المالية «سويفت». كما تعمل روسيا على الحد من اعتمادها على البرمجيات الغربية في الأنظمة الحيوية الحساسة. فيرد المشرعون الأمريكيون باقتراح مزيد من العقوبات للحد من قدرة روسيا على الوصول إلى البرمجيات الحيوية، بما في ذلك فرض عقوبات على مطوري البرمجيات الروس، ومنع البائعين الغربيين من توفير التحديثات والدعم للمؤسسات الروسية، وتنبيه المؤسسات المالية إلى أهمية منع المعاملات المالية بين الشركات الروسية ومقدمي خدمات البرمجيات.
إلى ذلك أيضاً، يهرع مشرعو الكونغرس لمحاولة الحد من تأثير لجوء النظام المالي الروسي، في إطار تنويع آليات المدفوعات، ومنها التوسع في استخدام العملات المشفرة، وذلك بملاحقة شركات خلط العملات المشفرة «Crypto mixers»، وهي طريقة يستخدمها الأفراد والشركات لإخفاء أصل ووجهة عملات التشفير الخاصة بهم.
كما توفر خصوصية أكبر بكثير من معاملات «Blockchain» المعيارية التي تعتمد على فكرة الشفافية، وأيضاً ملاحقة البورصات، وعمليات التعدين، والأفراد المرتبطين بها الذين يعملون دون هوادة على مراوغة العقوبات الغربية.
نائب وزير الخزانة الأمريكية، والي أدييمو، صرح أمام لجنة مجلس الشيوخ المعنية بالبنوك والإسكان والشؤون الحضرية، بأنه أوصى في نوفمبر 2024 بإدخال أداة عقوبات ثانوية، تستهدف مزودي الأصول الافتراضية الأجانب الذين يسهلون التمويل غير المشروع. كانت أمريكا قد فرضت في 2022، عقوبات على شركتي خلط العملات الافتراضية «Tornado Cash» و«Blender.io» وفي نفس العام، فرض مكتب مراقبة الأصول الأجنبية عقوبات على شركات تعمل في نشاط تعدين العملات الافتراضية في روسيا، وهي شركات تدير مزارع خوادم ضخمة في روسيا، وتبيع سعة تعدين العملات الافتراضية دولياً، ما يساعد روسيا على تحقيق الدخل من مواردها الطبيعية. هنا، تعول وزارة الخزانة الأمريكية، في فاعلية عقوباتها، على فرضية أن العديد من القطاعات الحيوية في الاقتصاد الروسي، تعتمد على معدات الكمبيوتر المستوردة ودفع قيمتها بالعملات الورقية، ما يجعلها عرضة للعقوبات. وهي فرضية تفترض بدورها، أن روسيا ليس لها خيار استيراد هذه المنتجات والمعدات سوى من الدول الفارضة للعقوبات على روسيا، أي أمريكا وأوروبا، وإن الوسيلة الوحيدة لآلية الدفع المتاحة لروسيا هي العملات الورقية «Fiat currencies»، وهي تقصد بالضرورة الدولار واليورو. البناء على مثل هذه الفرضيات لا يتماشى مع موضوعية العلاقات الاقتصادية الدولية التي لم يحدث عبر التاريخ أن خضعت لمشيئة ورغبات الأفراد، بما فيها آلية العقوبات المتقادمة.
0 تعليق