الرفض العربي لمخطط التهجير ليس كافيا

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

من أثقل المهام على النفس أن يقوم المرء بدور حامل الأخبار السيئة إلى قومه «أمته» .

في العامين الماضيين اضطررت اضطرارًا لهذا الدور عندما صدمت الرأي العام الذي مال إلى تصديق تصريحات مسؤولين عرب أقسموا فيها بأغلظ الأيمان أنهم لا يمكن أن يقبلوا أن يتحول حلف النقب إلى حلف دفاع جوي عربي- إسرائيلي في مواجهة إيران. إذ أصررت أن هذا الحلف يتأسس سرًا وبهدوء متحولًا لمؤسسة تحت إشراف الأمريكيين. فجاءت تداعيات طوفان الأقصى؛ لكي تفضح عربًا كثرًا شاركوا في صد هجمات الصواريخ الإيرانية على إسرائيل جعلت أنتوني بلينكن يتبجح بأن من دافع عن إسرائيل في هذه الحرب لم تكن واشنطن فقط ولكن شاركها أيضًا حلفاؤها العرب!.

أشعر بأنني استدعيت مرة ثانية لهذه المهمة الثقيلة بسبب مصيبة مخطط ترامب لتهجير سكان غزة إلى مصر والأردن ودول أخرى. فهل الموقف العربي الذي عارض هذا المخطط علنًا هو موقف جيد؟ الإجابة نعم، لكن هل هذا الموقف كافٍ لكي تذهب الشعوب العربية إلى النوم وهي متأكدة أن هذه المعارضة ستتكفل بإحباط المخطط ؟ الإجابة قطعًا هي لا.

أتحدث هنا عن مجموعة من العوامل تجعل من الوقوف الشعبي العربي على أطراف أصابعه متحفزًا لرصد ومنع أي تراجع في الموقف الرسمي العربي واجبًا وإلا مني العرب بأكبر كارثة استراتيجية منذ زيارة السادات للقدس والتي كرت بعدها سبحة الانحدار العربي.

فعادة ما يصد العرب الموجة الأولى من هذه المشاريع تحت الضغوط الشعبية التي يفجرها عادة تصريح لمسؤول غربي غير مكترث بمشاعر العرب.. لكن سرعان ما تتكفل ضغوط واشنطن المتدرجة ولكن المصممة ونقل الخطط من العلن إلى السر بحدوث تراجعات جزئية أو كلية في المواقف الرسمية العربية بعيدًا عن أنظار الرأي العام الذي تصور أنه أنجز مهمته وأوقف المخططات.

استجابة العرب لا تساوي حجم التحدي الخطير الذي يهدد وجودهم: لو استخدمنا نظرية المؤرخ الشهير توينبي نكاد نقول إن استجابة العرب للتحدي المطروح عليهم لا تشي بأنهم سيتمكنون من مواجهته والتغلب عليه، فباستثناء رفض خطة التهجير لا يعكس الأداء السياسي العربي فهمًا حقيقيًا لحجم الخطر الذي يمثله تبني أقوى دولة في العالم علنيًا مخطط التطهير العرقي للفلسطينيين ومخطط توسيع مساحة إسرائيل الحالية. فما حدث هو تطور تاريخي بالغ الخطورة من جهتين الجهة الأولى هي الهجمة العقائدية والفكرية المتطرفة فما طرحه ترامب فعليا هو التبني الكامل لأفكار الحاخام المتطرف مائير كهانا التي تقوم على ضرورة طرد العرب الفلسطينيين من فلسطين التاريخية بل والتقدم نحو الأرض التي وعد الرب بها إبراهام باعتبارها أرض إسرائيل الكبرى، التي تشمل مناطق في سوريا ولبنان والعراق ومصر والأردن والمملكة العربية السعودية. بعبارة أوضح أصبح ترامب هو الرئيس الأمريكي الذي يقوم علنا بإحداث التطابق التام والاندماج العقدي الكامل بين تيار «الكهانية» الصهيونية الدينية المتطرفة في إسرائيل وتيار «المسيحية الصهيونية» في الولايات المتحدة. الثانية هي الهجمة الجيواستراتيجية نحو شرق أوسط جديد يحل محل نظام سايكس بيكو وينسف النظام الإقليمي العربي الذي تأسس في أربعينات القرن الماضي: المخطط المطروح للتهجير كشف على أنه جزء من مخطط استعماري أوسع لم يعد يقف عند حدود تصفية القضية الفلسطينية فحسب، بل يهدف إلى إعادة بناء الشرق الأوسط وإعادة رسم حدود الدول العربية بحيث يتم تفتيت دول قائمة إلى دويلات عرقية وطائفية بما في ذلك حلفاء واشنطن المعتدلين.

بعبارة أخرى لا توحي استجابة النظام الرسمي العربي للاطمئنان بأنهم فهموا تمامًا أن ما يتعرض له لم يعد مجرد إلقاء الكرة الفلسطينية المشتعلة في حجره وتخلص دولة الاحتلال الصهيوني وأمريكا منها بل ما يتعرض له هو تهديد وجودي لأنظمته السياسية وإنذاره بعدم استقرار داخلي في أقطاره قد يقود لتغيير الحكم في بعض الدول وانهيار الدولة الوطنية نفسها في دول أخرى.

من أدلة ضعف الاستجابة مقارنة بقوة التحدي يمكن ملاحظة الظواهر المقلقة التي قد تصبح ظواهر هزيمة إذا لم يتم تداركها عبر ضغط شعبي عربي على الرسمية العربية، من هذه الظواهر: البطء الشديد في القرار العربي: أول عناصر الاستجابة التاريخية الصحيحة هو سرعتها في مواجهة التحدي المطروح وحصاره في مهده بتحرك سريع وجماعي يحشد كل القدرات المتاحة.. ولكن الاستجابة الرسمية العربية اتسمت بالبطء إذ تم تأجيل القمة العربية «٤ مارس المقبل» لتأتي بعد شهر من إعلان ترامب عن مخطط التهجير. سيدفع ذلك ترامب إلى مزيد من ممارسة الضغوط على نظم مرتعبة والنظر إلى معارضتها العلنية على أنها حالة ضعف جديدة لن تقترن بتهديد من أي نوع للمصالح الأمريكية الهائلة مع العرب. وحتى اللقاء الذي عقد بين قادة سبع دول عربية غلب عليه حذر شديد في استعداء ترامب فوصف الاجتماع بالتشاوري والأخوي. مما أدى لخفض سقف التوقعات الشعبية من أنه سيتمخض عن قرارات ملزمة ترضي الجماهير العربية التي اشتعلت نار الغضب في أرواحها والتي يلقي ترامب كل يوم تقريبا بتصريحات استفزازية عن غزة- والتهجير تزيد النار اشتعالا.

وجود خروق وثغرات خطيرة في جدار الرفض السياسي العربي حتى في هيئته الحالية المنحصرة في البيانات السياسية، ولم تقترن بعد بأفعال أو باستخدام أوراق قوة عديدة عن العرب.

السلطة الفلسطينية هي إحدى الثغرات التي أضعفت الموقف العربي عندما اختارت توقيتًا ولا أسوأ منه للخضوع لشرط إسرائيلي يطلب منها وقف دفع مرتبات لعائلات الشهداء وعائلات الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. ثم تبعتها تسريبات من الجانب الإسرائيلي قالت إن سلطة رام الله مستعدة لتولي مسؤولية قطاع غزة وتحقيق الهدف الأمريكي الإسرائيلي بإخراج المقاومة وقادتها خاصة حماس من غزة .

ونشرت معلومات تفيد بأن إحدى الدول الإبراهيمية اعترضت على صيغة بيان يعد ليصدر عن القمة يرفض التهجير بشكل مطلق. لتضاف كلمة القسري أي أنها تدعم ما يسميه الأمريكيون والإسرائيليون «التهجير الطوعي» بمنع دخول البيوت المتنقلة والغذاء والدواء عن غزة فتستحيل الحياة في القطاع فيحدث التهجير طوعًا.. شرخ تدرك خطورته عندما تعرف أن وزير الدفاع الإسرائيلي شكل إدارة لتنفيذ خطة ترامب للتهجير الطوعي وعندما تتباهى المتحدثة باسم ترامب بأن هناك مكانين حددتهما إسرائيل في قطاع غزة لتسهيل خروج الفلسطينيين.

الأخطر من ذلك كله هو أن العرب مصممون على العمل تحت السقف الأمريكي المنخفض، وليس خرق هذا السقف والدفاع عن وجودهم فما يحصر ترامب العرب في بحثه وتقديم خطة فيه هو أن يقوموا كعرب بإنجاز ما فشل فيه الجيش الإسرائيلي ٥٠٠ يوم كاملة وهو نزع سلاح المقاومة. إذ يشترط ترامب إعادة الإعمار في غزة مقابل تولي قوات عربية مواجهة المقاومة وتجريدها من السلاح وشطبها من المعادلة الفلسطينية.

حسين عبد الغني كاتب وإعلامي مصري

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق