سهرة طربيّة مع «الكوكب»

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

للحظات شعرتُ أن التحيّة التي وجّهتها دار الأوبرا السلطانية مسقط، للموسيقار محمّد عبدالوهّاب وهي تحتفـي بإرثه الفني، استحوذت على حصّة كبيرة منها (أم كلثوم)، فـي الحفل الثاني الذي خصّصته للأغاني التي لحّنها عبدالوهّاب لكوكب الشرق، لِمَ لا، وهو شريك فـي صنع نجاح تلك الأغاني؟ فتمايل الحضور طربا، مردّدا مقاطع منها فـي حفل أحيته الفنانتان؛ اللبنانية جاهدة وهبة، والمصرية ريهام عبدالحكيم، وكان معظم هذا الحضور من أجيال ولدت بعد رحيل (أم كلثوم) يوم 3 فبراير 1975 م عن عالمنا، أي قبل نصف قرن، وهذا دليل على أن هذا الصوت بقي وسيبقى خالدا لأجيال قادمة، رغم تبدّل الذائقة، من جيل إلى آخر، وإقبال الأجيال الجديدة على سماع الأغاني ذات الإيقاع السريع، وحين تجوّلنا فـي المعرض التكريمي الذي أقامته الدار لعبدالوهّاب، وقفنا طويلا أمام بدلة معروضة من بدلات أم كلثوم، وهذا يدعونا إلى التساؤل عن الأسباب التي صنعت من (أمّ كلثوم) أسطورة غنائيّة، وجعلتها تتربّع على عرش الغناء العربي لسنوات طويلة، منذ ظهور أسطوانة (إن كنت أسامح وأنسى الأسية) عام 1928م إلى اليوم، أي ما يقارب قرنا، وهذا نادرا ما يحدث فـي عالم الغناء، فهي «المعجزة التي لم ولن تتكرّر» كما وصفها عبدالحليم حافظ، وهي «المطربة الموهوبة التي أثبتت أن الغناء هو فن عقول وقلوب، وليس فن حناجر وأفواه» كما يقول الأديب عباس محمود العقاد.

كيف استطاعت هذه المغنية القادمة من قرية صغيرة تدعى (طماي الزهايرة) فـي محافظة (الدقهلية) إلى القاهرة أن تتبوأ هذه المكانة المتميزة، فـي وقت كانت العاصمة المصرية مكتظة بالأصوات، وكانت منيرة المهدية تتصدّر المشهد الغنائي، فاعتبرتها منافسة لها وحاربتها، ولم تتوقّف عندها، بل شقّت طريقها، بثبات، وكان المطرب إبراهيم حمودة فـي الثلاثينيات أكثر شعبية منها، كما نشرت مجلة الموعد عام 1970، لكنها وضعت كل ذلك خلف ظهرها وصنعت أسطورتها وأجبرت الجميع على الاعتراف بموهبتها وكرّمها الملك فاروق وقلّدها نيشان الكمال عام 1944م، وعدّت واحدة من أعظم مغنٍ ومغنية فـي التاريخ، فـي استبيان لمجلة (رولينج ستون) الأمريكية.

فما هو السر فـي ذلك؟

حسب المفاهيم العلمية للمتخصصين فـي مجالي الصوت والموسيقى، فإنّ امتلاكها مساحة صوتية كبيرة تبلغ 3.6 أوكتاف ساعدها فـي ذلك، تعقبها اسمهان بامتلاكها 3.3 أوكتاف ووديع الصافـي بـ 3.0 أوكتاف» كما يقول سلام أبو نصر والأوكتاف «مصطلح يطلق على المسافة الفاصلة بين درجتين تحملان نفس الاسم، إحداهما قرار والأخرى جواب» لكن المساحة الصوتية ليست كل شي، هناك الذكاء الاجتماعي الشديد، وحسن إدارة الموهبة، والحرص على تطوير الذات، والثقافة الشخصية ونظام الحياة الصارم والانصراف للفن والتأسيس الصحيح، فموهبتها تأسّست على يد معلمها الشيخ أبو العلا الذي علمها أصول الغناء من خلال تدريباته الكثيرة، وقبل ذلك حفظها للقرآن الكريم، وأنشدت مع والدها فـي الموالد والمناسبات الدينية، وفـي القاهرة فرضت حضورها على الأوساط الفنية، وانخرطت فـي نشاطات فنيّة اجتماعية، فشغلت موقع نقيبة الموسيقيين المصريين، وأسهمت فـي جمع التبرعات للجيش المصري، أيّام النكسة بعد 1967 وأقامت حفلات ذهب ريعها للمجهود الحربي، وغنّت أناشيد حماسية، إلى جانب رصانة شخصيتها، ويرجع الناقد رجاء النقاش فـي كتابه (لغز أم كلثوم) إلى ذائقتها الأدبية الرفـيعة وقراءتها للشعر العربي القديم، وهذه الذائقة مكّنتها من النجاح فـي اختيار الكلمات، فاحتلّت مكانة خاصة.

وهناك جانب آخر مهم هو أن الظروف هيأت لها أن تعيش فـي عصر الكبار، من شعراء وملحنين، فأغنية (أمل حياتي) التي غنتها عام 1965 بدأت عندما عرض الشاعر أحمد شفـيق كامل مطلع الأغنية على عبدالوهاب، فأعجب به بشدة، وكانت أم كلثوم قد غنت له (أنت عمري) 1964م التي لحّنها عبدالوهاب وحقّقت نجاحا كبيرا، وطلب منه إكمال القصيدة، وقام بتلحينها وأدّتها أم كلثوم، أما قصيدة (أغدا ألقاك) للشاعر الهادي آدم، فقد جاءت خلال تحضيراتها للحفلات التي يعود ريعها للمجهود الحربي وبعد زيارتها للسودان، أرادت أن ترد الجميل للسودان وتغني قصيدة لشاعر سوداني، فأوكلت المهمة للشاعر صالح جودت الذي اختار لها سبعة دواوين، ومن كل ديوان قصيدة وقدّمها لأمّ كلثوم، وبعد قراءتها، أعجبت بهذه القصيدة التي لم تر النور إلّا عام 1971م، وكان قد لحّنها عبدالوهاب عام 1967م ، وجرى مثل هذا مع أغنية (فكّروني) التي غنّتها عام 1966م وكانت من كلمات الشاعر عبدالوهاب محمد، فحين قدّم لها الشاعر النص، أعجبت به، فاقترح الشاعر أن يلحنه بليغ حمدي، وشاءت المصادفة أن يدخل الموسيقار محمد عبدالوهاب منزل أم كلثوم، فالتفتت للشاعر، واقترحت عليه أن يلحّنه عبدالوهاب، فوافق فورا، وكلّ هذه القصص كتبتها دار الأوبرا السلطانية مسقط على شاشة خلفـية على خشبة المسرح، خلال أداء المطربتين لتلك الأغاني، التي جعلتنا نعود إلى سنوات بعيدة، وسهرات الجيل الذي سبقنا، وكان يمضي ساعات يستمع فـي البيوت والمقاهي إلى صوت (أم كلثوم) إذاعة (صوت العرب) التي كانت تذيع حفلا ساهرا فـي الخميس الأول من كل شهر، فـيحلّق مع الكوكب طربا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق