بعد تجاوز أزمة كورونا والضغط الروسي.
على مدار السنوات الخمس الماضية، اضطرت دول الاتحاد الأوروبي إلى التكيف مع ظروف غير مسبوقة. فقد توحدت لشراء عشرات الملايين من اللقاحات، وابتكرت آلية تمويل ديون غير مسبوقة لإنعاش اقتصاداتها التي تضررت جراء جائحة كوفيد-19 ،وبعد أن أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قواته بدخول أوكرانيا قبل ثلاث سنوات ورفع أسعار الطاقة لإضعاف الدعم الغربي، تمكنت الدول السبع والعشرون من التخلص من اعتمادها على الغاز الطبيعي الروسي في وقت قياسي.
واليوم، تواجه هذه الدول تحديا جديدا يتمثل في إنهاء اعتمادها على الولايات المتحدة في توفير الأمن، وخلال الأسابيع الماضية، أوضح مسؤولون بارزون في إدارة الرئيس دونالد ترامب أن أولويات الولايات المتحدة تكمن في أماكن أخرى، في آسيا وعلى طول الحدود الجنوبية لأمريكا، وأن على أوروبا، بما في ذلك أوكرانيا، أن تتولى شؤونها الأمنية بنفسها.
وقال فريدريش ميرتس، المستشار الألماني المحتمل، في مقابلة مع القناة التلفزيونية الثانية في ألمانيا، بعد فوزه في انتخابات الأحد: "الأولوية المطلقة بالنسبة لي ستكون تعزيز قوة أوروبا في أسرع وقت ممكن، حتى نتمكن من تحقيق الاستقلال عن الولايات المتحدة خطوة بخطوة".
وأضاف ميرتس، معبرا عن دهشته مما وصفه بلامبالاة أمريكية واضحة تجاه مصير أوروبا: "لم أكن أتصور يوما أنني سأضطر لقول مثل هذا الأمر في برنامج تلفزيوني."
ورغم استبعاد الاتحاد الأوروبي من محادثات السلام بشأن أوكرانيا، يبدو أن ميرتس وقادة أوروبيين آخرين عازمون على التكيف مع الواقع الأمني الجديد. ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كانوا سيتمكنون من حشد الموارد العسكرية والمالية اللازمة، أو إيجاد الإرادة السياسية الكافية للدفاع عن مصالحهم.
الفجوة الأمنية المتزايدة في أوروبا
يعتقد حلف شمال الأطلسي (ناتو) أن على الدول الأعضاء تخصيص ما لا يقل عن 2% من إجمالي ناتجها المحلي لميزانياتها الدفاعية. ومع ذلك، فإن اثنتين من القوى الكبرى في الاتحاد الأوروبي، وهما إيطاليا وإسبانيا، لا تقتربان من هذا المستوى، كما هو الحال بالنسبة لكل من بلجيكا وكرواتيا ولوكسمبورج والبرتغال وسلوفينيا.
وصرح الأمين العام للناتو، مارك روته، بأن الدول الأعضاء قد تحتاج إلى إنفاق 5ر3% إلى 7ر3% من ناتجها المحلي الإجمالي لتنفيذ خطط الحلف في الدفاع عن أوروبا، مشيرا إلى مخاوفه من أن روسيا قد تصبح قادرة على شن هجوم على دولة أوروبية بحلول نهاية العقد.
وتتضمن هذه الخطط الدفاعية مشاركة القوات الأمريكية، لكن في حال غيابها، يقدّر معهد بروجل في بروكسل أن أوروبا قد تحتاج إلى 300 ألف جندي وزيادة سنوية في الإنفاق لا تقل عن 250 مليار يورو (262 مليار دولار) لردع روسيا.
وذكر معهد بروجل أن وقف أي تقدم عسكري روسي قد يتطلب 1400 دبابة، و2000 مركبة قتال مشاة، و700 قطعة مدفعية.
وأضاف المعهد: "هذه القوة القتالية تفوق ما تمتلكه القوات البرية الفرنسية والألمانية والإيطالية والبريطانية مجتمعة في الوقت الحالي."
وفي أوكرانيا، دعا الرئيس فولوديمير زيلينسكي إلى نشر 150 ألف جندي أوروبي لضمان عدم تجدد النزاع بعد التوصل إلى وقف لإطلاق النار، إلا أن جيوش أوروبا صغيرة الحجم .
ويقترح أحد الحلول نشر أقل من 30 ألف جندي أوروبي مدعومين بالقوة الجوية والبحرية، لكن حتى توفير هذا العدد يُشكل تحديا.
معضلة التمويل
ارتفع الإنفاق الدفاعي في أنحاء أوروبا منذ بدء الغزو الروسي، لكن جزءا كبيرا منه يُنفق على تسليح أوكرانيا وإعادة ملء المخزون العسكري الأوروبي المستنفد، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار بسبب زيادة الطلب.
وتعاني أوروبا من نقص في وسائل النقل العسكري وسلاسل الإمداد اللوجستي، كما تواجه عجزا في القوى البشرية. ورغم أن العدد الإجمالي للجيوش الأوروبية يبلغ نحو مليوني جندي، فإنه يمكن نشر القليل منهم بفعالية. وتصاعدت في الآونة الأخيرة النقاشات حول إمكانية فرض التجنيد الإجباري.
وللمساعدة في سد هذه الثغرات، تعمل المفوضية الأوروبية على تخفيف قواعدها المالية، مما سيسمح لدول الاتحاد الأوروبي بزيادة إنفاقها الدفاعي، ولو بشكل مؤقت. ورغم أن هذه الخطوة ليست حلا سحريا، فإنها قد تشجع على زيادة الميزانيات العسكرية.
ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان ميرتس سيخفف من معارضة ألمانيا لسندات الدفاع الأوروبية، والتي تقوم على الاقتراض المشترك لتوفير منح وقروض منخفضة الفائدة، على غرار خطة التعافي الاقتصادي بعد الجائحة. في المقابل، تدعم فرنسا وإيطاليا وبولندا وإسبانيا بالفعل فكرة سندات الدفاع.
وفي 19 مارس/آذار، ستكشف المفوضية عن وثيقتها الرسمية التي ستتضمن مقترحات لمشاريع عسكرية كبرى، وسبل تعزيز الصناعة الدفاعية الأوروبية، وآليات تمويلها.
أما على المدى الطويل، فسيتم إعادة توجيه ميزانية الاتحاد الأوروبي للسنوات السبع المقبلة نحو تعزيز الأمن.
وقال مفوض شؤون الميزانية في الاتحاد الأوروبي، بيوتر سرافين، الأسبوع الماضي: "عاد الاهتمام الجاد بمناقشة مسألة القدرات الدفاعية لأوروبا." لكنه حذّر من أن تأثير الميزانية الجديدة قد لا يظهر إلا بحلول عام 2030، مما يعني أن أي إجراءات دفاعية "يجب أن تتخذ الآن".
الإرادة السياسية.. السلعة النادرة في أوروبا
يشكل توفير التمويل اللازم للتكيف مع الواقع الأمني الجديد تحديا هائلا، لكن ما هو نادر أيضا هو الشجاعة السياسية والوحدة المطلوبة لمواجهة خصم مثل روسيا. فقد اعتمدت أوروبا لعقود على المظلة الأمنية الأمريكية، ومن الصعب التخلي عن العادات القديمة.
وقال هيرمان فان رومبوي، الرئيس السابق للمجلس الأوروبي، عام 2016، قبل أن يصبح دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة للمرة الأولى: "لا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يصبح فاعلا إقليميا وعالميا حقيقيا دون بُعد عسكري مؤثر".
إن إقناع 27 دولة بالاتفاق على نهج مشترك لم يكن يوما سهلا، وبعد أكثر من ثماني سنوات، تبدو أوروبا اليوم في أضعف حالاتها، حيث يؤدي الصعود المستمر لليمين المتطرف، الذي يتبنى مواقف مؤيدة لروسيا في كثير من الأحيان، إلى تقويض النظام القديم.
وقد يجلب ميرتس بعض الاستقرار لألمانيا، رغم أن اليمين المتطرف احتل المركز الثاني في الانتخابات هناك. لكن الحكومة الفرنسية هشة، وإسبانيا تعتمد على أحزاب صغيرة للحفاظ على تماسك ائتلافها. أما هولندا، فيهيمن عليها خيرت فيلدرز، زعيم اليمين المتطرف، ما يجعل حكومتها غير مستقرة.
وتبدو بولندا قوية تحت قيادة رئيس الوزراء دونالد توسك، لكن انتخابات رئاسية تلوح في الأفق، حيث يتمتع مرشح يميني بفرص جيدة للفوز. أما بلجيكا، فقد شكلت حكومتها الجديدة بعد شهور طويلة من المفاوضات.
أما إيطاليا، فقد تكون الأكثر استقرارا، لكنها تظل غير متوقعة إلى حد ما، تحت قيادة جورجا ميلوني، التي ينتمي حزبها الحاكم إلى جذور "فاشية جديدة". ومن بين الدول الصغيرة، كانت المجر وسلوفاكيا عنصرين مزعجين داخل الاتحاد الأوروبي، إذ عرقلتا الدعم الأوروبي لأوكرانيا.
ولن يكون هناك تحرك حقيقي إلا إذا توصلت أوروبا إلى رؤية مشتركة حول التهديد الأمني الذي تواجهه.
0 تعليق