هل نملك الجرأة لنقولها؟

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

من النادر أن يمر تصريح مسؤول كبير مرور الكرام حين يكون صريحا، ومباشرا، وخارجا عن المألوف. وعندما قال معالي عبد السلام المرشدي، رئيس جهاز الاستثمار العماني، هناك بعض الوظائف لا أرضاها للعمانيين، لم يكن مجرد تصريح رسمي آخر، بل كان تعبيرا عن قناعة راسخة وفكر واضح المعالم.

لقد جرت العادة أن يكون الخطاب الرسمي متوازنا، ومدروس العبارات، فلا يصدم أحدا، ولا يفتح باب التأويلات. لكن هذه المرة، جاء التصريح واضحا في اعترافه، وطموحا في طرحه، وصريحا في رفضه لأي تهاون في بناء مستقبل العمانيين.

وهذا ليس تقليلا من أي عمل، أو انتقاصا ممن يشغلون وظائف متواضعة، فقد أكد معاليه ذلك، رغم أن سياق حديثه كان واضحا حتى دون تأكيد. كما أن الرسالة لم تكن أن العماني يجب أن يرفض العمل حتى يحصل على أعلى وظيفة، فكل عمل، أيا كان، هو محطة على طريق النضج، والتجربة، واكتساب المهارات، والانفتاح على آفاق جديدة.

ولكنه كان حديثا عن مسؤولية أكبر: مسؤولية أجهزة الدولة، بمختلف قطاعاتها، في تمكين العمانيين من الوصول إلى الوظائف التي تليق بإمكاناتهم، والتي تتطلب كفاءة وخبرة عالية، كي يصبحوا جزءا فاعلا من اقتصاد متطور قادر على المنافسة عالميا.

الفرص التي لا تزال تنتظرنا

لطالما أدركنا أن سلطنة عمان ليست مجرد دولة نفطية، بل هي بلد يمتلك من الثروات والموارد ما يؤهلها لتكون مركزا اقتصاديا أكثر تنوعا واستدامة. فإلى جانب النفط والغاز، هناك المعادن، والموقع الاستراتيجي الذي يجعل البلد محطة لوجستية طبيعية بين الشرق والغرب، والبحار التي تزخر بثروات سمكية هائلة، ناهيك عن إمكاناتها السياحية والتجارية.

وبالفعل، بذلت الدولة، بقيادة حكيمة، جهودا كبيرة في الاستفادة من هذه الإمكانات، وبنت منظومة استثمارية متكاملة، وعملت على تطوير الموانئ والمناطق الحرة، ووضعت استراتيجيات لتعزيز القيمة المحلية المضافة. لكننا جميعا ندرك أن الطموح لا ينبغي أن يتوقف، وأن الطريق لا يزال طويلا للوصول إلى اقتصاد قادر على خلق فرص عمل نوعية تتناسب مع إمكانيات العمانيين.

وهذا هو جوهر ما أشار إليه التصريح أن مسؤولية أجهزة الدولة لا تقتصر على إيجاد وظائف، بل على صناعة بيئة عمل تسمح للمواطن بأن يجد لنفسه مكانا في المهن والقطاعات التي ترفع من شأن الاقتصاد الوطني، وتجعله أكثر تنافسية واستدامة.

الإصلاح الذي يكمل هذه الرؤية

من المؤكد أن تحقيق هذه الأهداف ليس مسؤولية جهاز استثماري واحد، ولا حتى الحكومة وحدها، بل هو جهد جماعي، يشمل الجميع من مؤسسات الدولة إلى القطاع الخاص، والمجتمع بأسره.

لكن هناك مفتاحا أساسيا لا يمكن تجاهله: التعليم.

فلا يمكن أن نبني اقتصادا معرفيا متطورا بينما نظامنا التعليمي لا يزال يركز على التلقين أكثر من التفكير النقدي، وعلى الشهادة أكثر من المهارات، وعلى الكم أكثر من النوع. لقد خطت الحكومة خطوات مهمة في تطوير التعليم، وإدخال التخصصات الحديثة، وربط المناهج بمتطلبات السوق، لكننا جميعا نعلم أن التحدي الأكبر لا يزال في ضمان جودة التعليم المدرسي قبل الجامعي، بحيث يصل الطالب إلى الجامعة وهو مجهز بالفعل ليكون جزءا من اقتصاد المستقبل.

بين الطموح والواقع

إن الطموح وحده لا يكفي، ولا يمكن أن تحل الأحلام محل السياسات العملية. ولكن في المقابل، لا يمكن لأي سياسة أن تنجح ما لم تكن هناك رؤية طموحة تقودها.

واليوم، عندما نسمع مسؤولا كبيرا يتحدث بهذه الصراحة عن نوعية الوظائف التي يستحقها العماني، فإننا لا نأخذ الأمر على أنه مجرد تصريح، بل كإشارة إلى أن هناك وعيا متزايدا بأن القادم يجب أن يكون مختلفا.

لقد قطعت الدولة شوطا طويلا في بناء اقتصاد مستدام، والاستثمار في البنية الأساسية، وإطلاق المبادرات الداعمة لريادة الأعمال، ولكن المرحلة القادمة تتطلب قفزة نوعية في التفكير، حيث يكون التعليم والتأهيل والتوظيف جزءا من استراتيجية شاملة، لا تركز فقط على العدد، بل على القيمة المضافة لكل وظيفة ولكل موظف.

الخلاصة: هل نحن مستعدون لهذا التحدي؟

قد يكون هذا التصريح لحظة فارقة، ولكن الفارق الحقيقي لا تصنعه الكلمات، بل الأفعال.

نحن أمام فرصة ذهبية لتعزيز نهج جديد في التفكير الاقتصادي، نهج لا يكتفي بتوفير الوظائف، بل يخلق بيئة عمل تجعل العماني قادرا على المنافسة في أعلى المستويات.

ولكن لتحقيق ذلك، لا بد من استمرار الجهود التي تبذلها أجهزة الدولة، ودعمها بسياسات أكثر جرأة، وشراكات حقيقية مع القطاع الخاص، وتحديث مستمر للمنظومة التعليمية، بحيث لا يكون النجاح مجرد استثناء، بل هو القاعدة.

إنها مسؤولية الجميع، وإن كان هناك شيء إيجابي يمكن استخلاصه من هذا التصريح، فهو أنه يضع أمامنا تحديا لا يمكن تجاهله: هل نملك الجرأة للمضي قدما في هذا الطريق؟

الإجابة ليست عند مسؤول واحد، بل عندنا جميعا.

سليمان بن سنان الغيثي كاتب عماني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق