السبيل – خاص
في كل صباح جديد في غزة، تشرق شمس مثقلة بالدماء والركام، شاهدة على أبشع الجرائم التي عرفها التاريخ الحديث. لا أرقام تُحصي، ولا ذاكرة تحتمل، فالضحايا يتساقطون كأوراق شجر خريفية، وكأن الزمن تجمد على مشهد واحد: الموت يعمّ المكان.
46 ألفاً و537 شهيداً، 109 آلاف و571 جريحاً، وأكثر من 11 ألف مفقود.. أرقام قاسية تُخرجها وزارة الصحة في غزة كل يوم، ولكن مَن يُنصت لها؟ مَن يرفع صوته ليوقف عداد الموت هذا؟ العالم، بصمته وتواطئه، يتفرج وكأن المشهد يُعرض على شاشة سينمائية بعيدة.
في سماء غزة، تحلّق طائرات الاحتلال بلا هوادة، مُحمَّلة برسائل الموت، تُمطر بيوتها بالقنابل، ولا تترك خلفها سوى الخراب. وفي الوقت ذاته؛ يهبط الدمار السياسي من عواصم القرار العالمي، حيث تبارك دول غربية هذه الجرائم من خلال دعمها العسكري والسياسي لإسرائيل، التي تلقي قنابلها الموقّعة بعبارة “صُنع في الغرب” لتدمر منازل العائلات الفلسطينية.. صواريخ تُشترى بأموال دافعي الضرائب في تلك الدول، لتكون وسيلة إبادة للفقراء والمظلومين.
ليس الغرب وحده من يشارك في الجريمة، بل إن صمت بعض الدول العربية يُثقِل المشهد أكثر. صمتٌ يشبه الشراكة في الجريمة، وتطبيعٌ يلمع صورة الاحتلال في المحافل الدولية، بينما تمزَّق أجساد الأطفال في غزة إلى أشلاء. كيف يمكن لحاكم عربي أن يصافح يداً ملطخة بدماء أبناء أمته؟ كيف يمكنه أن يفرش السجاد الأحمر لمن كان السبب في تهجير الملايين وقتل الآلاف؟
لكن إذا كان ثمة صمت لدى هذه الدول؛ فإن في الشوارع وجعاً وصرخات مكتومة.. الشعوب تراقب من بعيد، تشاهد الصور والفيديوهات التي تنقل مأساة غزة، دون أن تتمكن من كسر أغلال العجز، فالمظاهرات التي تخرج هنا وهناك لا تُكمل يومها إلا وتقمعها السلطات في بعض الدول العربية، وكأن التضامن مع غزة صار جريمةً يُعاقب عليها القانون.
وفي غزة، حيث الوقت ينساب كالدماء من الجروح المفتوحة، تتواصل الحياة والموت معاً.. بين الأنقاض، يكافح الناجون ليجدوا ماءً للشرب أو رغيفًا للبقاء. وفي مشهد يفوق الخيال؛ أمٌّ تبحث بين الركام عن طفلها المفقود، وأبٌ يودع عائلته بعدما عجز عن حمايتهم من صواريخ لا تميز بين بيت وآخر. أما الجوع والمرض فينهشان أجساد السكان، وكأن الموت يريد أن يضع توقيعه في كل زاوية من القطاع المحاصر.
ورغم كل هذه المآسي؛ لا يزال الاحتلال يتمادى، متجاهلًا مذكرتي الاعتقال الصادرتين عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت. فيما تبدو العدالة الدولية وكأنها محض خيال أمام واقع الهيمنة العسكرية والسياسية.. يُقتل الأبرياء وتُهدم البيوت، بينما العالم يكتفي بالبيانات والتصريحات الباهتة.
أمام كل هذا؛ يقف السؤال الأكبر بلا إجابة: متى ينتهي عداد الضحايا في غزة؟ متى يتوقف هذا النزيف المستمر؟ هل ينتظر العالم أن تُباد غزة بالكامل حتى يتحرك؟ أم أن صرخات الضحايا ستظل صدى في وادٍ لا يسمعه أحد؟
في قلب هذا المشهد المأساوي؛ يبقى سكان غزة رمزًا للصمود والإرادة، لكن إلى متى يمكن لجسد مثقل بالجراح أن يقاوم؟ غزة، ببطولاتها ومآسيها، تضع العالم أمام مرآة الحقيقة: إما أن ينتصر الإنسان، أو أن يغرق الجميع في وحل العار!
0 تعليق