زلــزال المشـرق العـربي

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

قـلّـما تعاقـبت على المشـرق العربيّ أحـداثٌ بهـذه الجَـسامـةِ والحِـدّة والهـوْل التي شَـهِـدنا عليها ونـشـهَد، طَـوال الأربعـة عشر شهرا الأخيرة؛ في فلسطيـنَ (غـزّةَ والضّـفّـة الغـربيّـة) ولبنانَ وسوريـة وضدّ هذه البلدان وشعوبِـها. قـد لا تكون الحـروب حدثـاً نادراً في تاريخ المشرق ويـوميّـاته؛ فلقد جرّبـتْها شعـوبُه وخَـبَـرَتْـها، طـويلاً، حتّى بدت وكأنّها من مألوفات عاداتها، وخاصّـةً منذ أن وَجَـد المشروعُ الصّهيونيّ مـوطنَ قـدمٍ له في قـلب هذا المشرق (فلسطين) قـبل ثـلاثة أرباع القـرن، فابتـلع القسمَ الأعـظمَ من أرضها، ومنها شرع في ابتلاع أراضي الجوار العربيّ لفلسطين. لكنّ الحـروب الجديدة التي شُـنّـتِ على شعوبه العربيّـة، منذ أكتوبر 2023، لا تشبهـها حروبٌ سابقة في الضّـراوة والقـتـل والتّـدمير والمآسي الإنسانيّـة الفاجعـة، مثـلما لا يُشبـه الصّـمتُ الدّوليّ عن الجرائم والإبادات، التي اقـتُـرِفت فيها، صمْتٌ سابـق: صمـتٌ هـو إلى التّسويغِ والتّجويـز (وبعضُه إلى التّواطؤ والشّراكة في الجريمة) أقـرب منه إلى العجز أو إلى اللاّمبالاة.

أنـفـقْـنا زمـنا مـديدا ونحـن نـقرأ معطيـات الحروب على المشرق العربـيّ قراءةً مـوضعيّـة؛ متواضـعـةً في فـرضيّاتها؛ محدودةً في زمـنـيّـة وقائـعها؛ مشدودةً إلى أسبابها الظّـاهرة المباشرة...، قبل أن نـكـتـشـف أنّ مشـروعا كبـيرا يُـعَـدّ لترتيب المنطقـة سبق الضّـغـطَ على الزّناد، وأنّـه كان ينـتـظر شرطَـه الموضوعيّ وذريـعـتَـه المناسبة لكي يُـفْـصِح عن خبـيئـته وينطلق، مثـلما هـو انطلق، في مـواكبَ متلاحقـةٍ من الجـحيـم النّاريّ، منذ نـيّـفٍ وأربعة عشر شهرا، من غير أن يشـهـد فصلا خـتاميّـا له بعـد؛

قـرأنا الحرب على غـزّةَ من مـدخـلِ اتّصالِها بأسبابها الظّاهرة المباشرة في 7 أكتوبر 2023 (طوفان الأقصى)، فرأيـنا إليها بما هـي ردٌّ بربريّ وحشـيّ مـن «إسرائيـل» على المقاومة لا يتـناسب، حجما وقـوّةً ناريّـة ونـتائجَ بشريّـة، وما كانَـتْـهُ وخـلَّـفـتْـهُ عملـيّـة الطّـوفان. وإذْ شَـرَعَ العـدوان يتـدرّج صعودا في الفظاعـة من جرائم الحرب، والجرائـم ضدّ الإنسانيّـة، إلى الإبادة الجماعيّـة، بشهادة المحاكـم الـدّوليّـة ومنـظّمات الأمم المتّـحدة، فيحصـد ما يزيد عن المائة ألـفٍ وخمسين ألـفاً من الشّـهـداء والمصابين؛ وإذْ أسفـر العـدوُّ عن أهـدافه في تهـجيـر سكّـان القطاع (بقـوّة النّيـران أو بفرض أمـرٍ واقـعٍ يخْـلُـقُـه فـعْـلُه الهادف إلى إعـدام شروط الحياة في غـزّة)، وفي الاستيلاء على شماله واقـتـطاع أجزاء منه («محو نـتساريم») لإقامة قاعـدة عسكريّـة، والسّـيطرة الدّائمـة على محور صلاح الـدّين («فيـلاديـلـفـيا») في رفـح...، شرعت عملـيّـةُ الرّبط بين الحرب وما حصل في 7 أكتوبر تـتهاوى كإطارٍ تـفسيريٍّ مقبـول، وبات الانـتـباهُ أشـدَّ إلى أهـدافٍ أخرى تُـجاوِزُ نطاق غـزّة. وهو انـتبـاهٌ عـزّزهُ، أكـثر، ما كان يجري من عـدوانٍ يـوميّ على الشّعب الفـلسطينيّ في الضّـفّة الغربيّـة المحتـلّـة؛

وقـرأنا الحربَ على لبنـانَ وعلى المقاومـةِ فيـه بفـرضيّـة الصّـلة التي تربـطها بأسبابـها المباشرة: إعـلانُ «حـزب اللّـه» جنوبَ لبنان جبـهـةَ إسنـادٍ لـغـزّةَ والدّخـولُ في حرب استـنـزافٍ طـويلـةٍ في شمال فلسطيـن المحتـلّـة، مع ما كَـلَّف ذلك «إسرائيـلَ» من بـاهـظ الأثـمان في مراكـزها الاستـيطانـيّـة وفي قـواها العسكريّـة واقـتصادهـا... إلخ. وقـيل في تحليل ما جرى إنّ «إسرائيـل» كـرّرت ما فـعلـتْـه في غـزّة من تـعـمُّـد قـصـف المـدنيّـيـن، لرفـع كلـفة خسائـر لبنان، فيما ظلّـتِ المقاومـة تضرب مراكـز العـدوّ العسكريّـة وجنوده. وحين تـدرَّجـتِ الحـربُ صعودا نحـو لحظـة المواجهات الشّاملة؛ فـبدأ اغـتـيالُ قيـادات المقـاومـة، وتدميـرُ مـدن الجنوب والبقاع وبـلْداتهما وضـرْبُ العمـق اللّبنانيّ، وتجريبُ الغـزو البـريّ يأخـذ مـداه، توقّـفـت فرضيّـةُ الصّـلة تلك عـن أن تستـمرّ قاعـدةً مقبولةً لـتـفـسير ما جرى على جبهـة لبنان، وشُـرِع في الهـجْـس بفرضيّـاتٍ واحـتـمالات أخرى أبعـد مـدًى ممّـا عاش عليه الوعـيُ، عـاما ويـزيد، مـن التّـقـشُّـف في الاحتـمال. ثـمّ ما لـبـث نـتـنـياهـو، رئيس وزراء الكيان المحتـلّ، أن أشعل حَـطَـبَ الهـواجس حيـن بـاح بـما تخـفيـه دولـتُـه مـن رغـبـةٍ في تحقـيق مشـروعٍ جـديـد يتـغيّـر بـه وجـهُ «الشّـرق الأوسـط».

مَـن يـتابـع، اليـوم، وقـائـع الحـرب الإقليـميّـة- الدّوليّـة المتجـدّدة على سورية لا يمـنـع نفـسه من إبـداء قـدْرٍ من اليـقيـن بأنّـها حـربٌ تـنـتمي إلى هـذا المسعى «الإسـرائيليّ» - الأمريكيّ - التّـركيّ إلى تغيـيـر خريطـة «الشّـرق الأوسط» (= المشرق العــربيّ). ربّـما كان هناك مَـن ينـخدع بــ «محلّـيّـة» هـذه الحرب، التي يُـوحي بها خـوضُ جماعاتٍ «جهاديّـة» مسلّـحة لها ضـدّ الدّولة والجيش النّـظاميّ، ولكنّ هـذه «المـحلّـيّـة» وشعاراتها «السّـوريّة» المكـذوبة محـضُ وهْـمٍ خادع؛ ليس فـقـط لأنّ تـلك الجماعات تضـمّ أرخبـيلا من جـنسيّـاتٍ عـدّة غـير سـوريّـة، بـل لأنّ الرّاعي الإقـليـميّ (= التّـركيّ) والدّوليّ (= الأمريكـيّ) هو من يدير خيوط جُـنْـدها ويرسُـم لها الأهـداف و، بالتّالي، يرفع عنها صـفـةَ المعارضة الدّاخليّـة التي تحاول أن تـزعُمها لنـفسـها لشرعنـة غزوتـها وتبريرها الحلولَ محـلَّ النّـظام الذي سقط. ولقـد كان رأسُ سورية مطلوبـا، دائـما، لتحـقيـق بُـغْـيـةِ إقامـة «شـرقٍ أوسـطٍ» جـديـد. ولم يكـن ذلك، فـقـط، لأنّـها تـدعم المقاومـات في المنطقـة («منـظّـمة التّـحرير الفـلسطيـنيّـة»، «حمـاس»، «الجهـاد الإسلاميّ»، «حـزب اللّـه») - وإنْ كـان هـذا الدّعـمُ حاسـماً في رفع معـدّل الكَـيْـدِ لها - ولكـنّ رأسها ظـلّ مطلوبـا منذ الحرب العالميّة الأولى على الأقـلّ: أَيَّـانَ بـدأتِ التّـجزئـةُ الأولى السّايكســيـكُـويّـة. ويعرف دهاقـنـةُ الاستعـمار وتلامذتُهـم، الدّوليّـون والإقليـميّـون، أن سورية هي الحِـمْـضُ النّـوويّ للمنطقـة برمّـتها، وقاعـدتُها الأساس، وأنّ في استقرارها استقرارا لمحيطها العربيّ، وفي الفَـتْـك بوحدتها الفـتْـك بالبلاد العربيّـة جمـعاء...

هـا نحـن نملك، اليـوم، أن نـعيـد قـراءة كـلّ هـذا الزّلـزال الهائـل الجاري، منـذ نـيّـفٍ وأربعة عشر شهراً، بحسبانـه مشروعا استعماريّـا - صـهـيونيّـا - إقلـيميّـا واحـدا متـرابـطَ الحـلقات وإنْ تـدرّجـت جبْـهاتُـه و«تـبايـنـت» قُـواه الرّاعـيّـة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق