عن الترجمة والفلسفة والإبداع في «تاريخ الفكر»

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

(1)

ملاحظة دقيقة استلفتت أستاذ الفلسفة السياسية المعاصرة، والمترجم المعروف، ومدير المركز القومي للترجمة الأسبق، الدكتور أنور مغيث، في ثنايا قراءاته وكشوفاته المعرفية لفترة التأسيس والبحث عن النهضة العربية الحديثة، وخاصة بين النصف الأول من القرن التاسع عشر، والربع الأخير من القرن العشرين.. هذه الملاحظة تتلخص في جمع رواد النهضة بين الاهتمام بتأصيل الفلسفة «أم العلوم» في تربة الثقافة العربية الحديثة، وبين نشاط الترجمة كنشاط معرفي أصيل، وبين الإبداع الفكري والأدبي أيضًا.

هذه الفكرة هي التي بنى عليها الدكتور أنور مغيث كتابه الجديد «تاريخ لم يكتبه المنتصرون - عن الفلسفة والترجمة والإبداع» الذي يصدر للمرة الأولى في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وتفتتح فعاليات دورته الـ56 بعد أيام قليلة، وتحل فيه سلطنة عُمان ضيف شرف المعرض، ثقافة وحضارة وعراقة وإبداعا متنوعا متعدد الوجوه والإشراقات.

ينطلق المؤلف في بحثه من فرضية أن الترجمة والفلسفة والإبداع مجالات مستقلة عن بعضها، ولكن هذا الكتاب في «تاريخ الفكر» يبين لنا تداخلها وتأثيرها المتبادل، ويبرز «الوحدة» التي تجمعها في المنبع والغاية التي تسعى إليها في المصب، أما اختلاف الوسائل أو سبل التعبير فهذا علامة غنى للوجود الإنساني بأسره، يقول أنور مغيث في مقدمته للكتاب:

«ننطلق في هذا المضمار من قول الفيلسوف اليوناني القديم هيراقليطس: الانسجام الداخلي أفضل من الانسجام الخارجي، فوجود عناصر متنوعة ومتنافرة بل ومتصارعة لا يتعارض مع انطلاقها من انسجام داخلي عميق؛ وفي المقابل وجود إجماع واتفاق يوحي بانسجام خارجي، لكنه قائم على صراعات كامنة ومكتومة ليس أمرًا محبذًا».

هكذا يرى أنور مغيث أن العلاقة بين الترجمة والإبداع لم تكن تناقضًا أبدا بل واحدة من أرقى صور التكامل، كما يرى أيضًا أن «الفلسفة» ليست مجالًا فكريًا تأمليًا كما يحلو للبعض أن يراها، وإنما هي ضرورية للممارسة السياسية الديمقراطية، وإعداد المواطن وترسيخ المواطنة في تربة الثقافة.

ونظرًا لأنه لا توجد أمة تنشئ لنفسها فلسفة خاصة بها وحدها لأن الفلسفة داخل ثقافة معينة ليست إلا حوارًا وتفاعلًا مع الفلسفات الأخرى، ولهذا فالترجمة ضرورية لتطور الفلسفة.

(2)

أعلم يقينا قيمة الدكتور أنور مغيث، ليس فقط كمترجم رفيع المقام، ولا كأستاذ للفلسفة السياسية والمعاصرة من البقية العطرة لأساتذة الفلسفة العظام، بل أيضًا وبالإضافة لكل ذلك، هو «مفكر» أصيل، وصاحب تأملات نافذة ونظرات عميقة للغاية في الثقافة الإنسانية والعربية..

ويضم هذا الكتاب الجديد حصيلة ممتازة من بحوث وقراءات الدكتور أنور مغيث التي انشغل بها على مدار العقد المنصرم، تنتظم في هذا الكتاب لتلقي بأضواء ساطعة على قضايا «التعليم» و«المواطنة» و«الترجمة» و«الفلسفة والإبداع».

ونقرأ عن أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد كما لم نقرأه أو نقرأ عنه من قبل، وتلميذه النابغة طه حسين ومشروعه الثقافي الكبير وبحثه عن مستقبل التعليم والثقافة في مصر.. وموضوعات وقضايا تتصل كلها بهموم وتحديات الفكر العربي الحديث.

يمهد أنور مغيث لفصول كتابه القيّم بتمهيد نظري عن سياسات الترجمة والفلسفة والإبداع، يكون بمثابة خريطة طريق وتحديد لموضوعات الكتاب وفصوله وأقسامه.

تمثل الترجمة، بحسب مؤلف الكتاب، ملمحًا جوهريًّا في المشهد الفكري والأدبي لكل ثقافة، والمفروض أن المجتمع هو الذي ينتج الثقافة دونما حاجة إلى تدخل الدولة، فالناس هم الذين ينتجون الأغاني والقصائد والروايات والأفلام، والكتب الفكرية، ولكن نظرة عامة على المستوى العالمي نجد أنه حين يتعلق الأمر بالترجمة، فإن هناك صورًا متنوعة من تدخل الدولة في مجال الترجمة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه «سياسات الترجمة».

هكذا، وإجمالًا ودون أن ينص على ذلك صراحة في هذا التمهيد، ينقسم الكتاب إلى قسمين: الأول يعالج بعض موضوعات الفكر العربي الحديث، وتياراته، واتصاله بالترجمة والفلسفة معًا، والثاني يعالج العلاقة بين الترجمة والإبداع الأدبي، وما يتصل بذلك من قضايا نشأة الأنواع الأدبية الحديثة، ورواجها.. إلخ.

(3)

وإذا كان المؤلف ينطلق من قيمة وأهمية الترجمة في عملية النهضة، ونشأة تيارات الفكر الحديث، فإنه توقف عند «الداروينية» وعلمنة الفكر في مصر، وعلاقتها بباقي التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية.. إلخ.

وجاءت الفصول التالية لتعالج الترجمة والفلسفة والأمة (أضواء على أحمد لطفي السيد مترجم أرسطو)، وبحث مفهوم التعليم والمواطنة (دراسة في الفكر السياسي لأحمد لطفي السيد)، ثم بحث موضوع الفلسفة والثقافة والبحث عن المستقبل (قراءة في مشروع طه حسين الثقافي).

وتأتي الفصول الثلاثة الأخيرة في هذا القسم، لتقدم رؤية نقدية للحداثة العربية، وتبحث التجليات النظرية والنقدية والمنهجية لكتاب «الاستشراق» الشهير الذي صدرت طبعته الأولى بالإنجليزية عام 1978، ثم صدور ترجمته إلى العربية عام 1981، والترجمات اللاحقة حتى وقتنا هذا، بدءًا من حضور إدوارد سعيد وأفكاره كما جسّدها في كتابه، وتأثيراته الواسعة، ثم تقاطعه مع تيارات فكرية أخرى (سعيد وماركس والاستشراق)، ويختتم هذه الفصول المتصلة المترابطة بنقد الاستشراق في الخطاب العربي المعاصر، والمناهج والنظريات التي تجاوزت ما قدمه إدوارد سعيد في كتابه الشهير.

(4)

ثم يأتي القسم الثاني من الكتاب الذي يعالج فيه موضوعات تتصل بالعلاقة الوثيقة بين الترجمة والإبداع الأدبي، خاصة في بواكير النهضة الحديثة، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى منتصف القرن العشرين، ويمهد له بمبحث نظري بعنوان (ضرورة الترجمة والإبداع الأدبي)، أفاض فيه بيان قيمة الترجمة وضرورتها وحاجتها بل محوريتها في أي عملية مرتجاة لنهوض والاستنارة وتفجر الإبداع الأدبي.

وكان طبيعيا -وقد مهّد مغيث نظريا ببحث العلاقة بين الترجمة والإبداع الأدبي- أن يتطرق إلى أوليات نشأة الأنواع الأدبية الحديثة (الرواية والقصة والمسرحية)، وأن يرصد بعين أستاذ الفلسفة والمفكر في قضايا النهضة، لا بعين الناقد أو مؤرخ الأدب، ما لعبته «الترجمة» من غرس وتأصيل هذه الأنواع الجديدة في تربة الثقافة العربية الحديثة، والوقوف عند بعض نماذجها ونصوصها، ومن هنا جاءت المباحث التي خصصها للترجمة ونشأة الأنواع الأدبية الحديثة، والترجمة والتنوير، والترجمة وروايات الغرام وروايات السفور.. إلخ، فيما يمكن أن نضعه تحت عنوان (قراءة في نشأة الرواية العربية).

وفي الأخير، يوجز المؤلف أفكاره الرئيسة التي دارت حولها فصول كتابه في «خاتمة» موجزة تقدم خلاصة مركزة لفصول الكتاب، وتمهّد كذلك لقراءات وتحليلات أخرى في كتب قادمة، تصدر تباعًا.

يقول المؤلف: «في النهاية، لا نزعم الإحاطة بكل تجليات تاريخ الفكر، ولكن نكتفي بإلقاء الضوء على جوانب في تاريخنا المعاصر، رغم أهميتها، كانت موجودة في دائرة الظل».

(5)

إجمالًا، يمكن القول بعد استعراض البنية العامة للكتاب، وتبويبه وموضوعات فصوله، إنه يسعى لأن يكون إسهامًا في «تاريخ الفكر»، نحاول من خلاله أن نوضح الدروب الخفية أو الكامنة في الكواليس، أي تلك التي لا تظهر على مسرح الأحداث، التي سلكتها «الحداثة» لكي تغيّر واقعنا المعيش من جذوره، والعثرات التي واجهتها، وما زالت تواجهها.

وهذا التاريخ يفسح مجالًا كبيرًا للتفاعل بين الثقافات، والاهتمام بما يسمى نظريات التلقي؛ أي دراسة هجرة الأفكار، فالفكرة حين تترك ثقافتها الحاضنة وتتدخل في رحاب ثقافة أخرى، يطرح عليها السياقُ الجديد وظيفة مختلفة عما كانت تقوم به في سياقها الأصلي.

والفكرة الوافدة، وكذلك الفكرة الموروثة، ليست أبدية، فقد نتلقى عبر صورٍ مختلفة مثل الترجمة والعرض، والمعايشة من خلال السفر، والهجرة، أفكارًا كثيرة لا تنتمي لثقافتنا، ولكن ليست كلها قابلة لأن تتفاعل تفاعلًا خلاقًا مع الثقافة المستقبلة، ولكن تتم عملية انتخاب لا واعية، فهناك أفكار يجري استقبالها بحماس، وتتحول إلى مسار لجدل شعبي عام، ثم يخبو بعد ذلك بريقها شيئًا فشيئًا، ومع ذلك فهي في النهاية لا ترد فارغة، إذ تترك بصمتها الراسخة في الواقع الذي حلّت فيه.

إن تاريخ الفكر لا يهتم بمعرفة ما إذا كانت الفكرة حقيقية أم لا، فهذا شأن الفلسفة، لكنه يهتم بالتغيرات الهيكلية التي نتجت عن تفاعل الفكرة مع سياقها الجديد.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق