قد يبدو أن مصطلح الـ«هياكل الهرمية» هو مصطلح حديث، وفق التعريف العلمي، ولكن؛ في حقيقته كممارسة؛ ليس كذلك، فقد مارسته الشعوب؛ ربما؛ منذ البدايات الأولى لعمر التنشئة؛ ولو لم يكن يخضع لتعريف علمي، أو مسمى رسمي، فقد تعارف أبناء المجتمع الواحد، وقبلهم الأسرة؛ على أن هناك تراتبيات في الدور المنوط بالمسؤوليات المختلفة، فهناك الأب، ثم الأم، ثم الأخوة الكبار -لكلا النوعين- حيث تتسلسل المسؤوليات وفق هذه التراتبية الهيكلية، وهي تسعى إلى ضبط مجموعة من السلوكيات في المجموعة الواحدة، والمسألة في صورتها هذه تصنف وفق الأعراف المجتمعية، قبل أن تعطى التسمية الرسمية في الوقت الراهن.
إذن كممارسة فالهيكلية موجودة، والاعتراف بأهميتها «ضمنية» والجميع يحرص عليها، حيث تحدث في إطار الممارسات اليومية التي يقوم بها الأفراد، سواء على مستوى الأسرة الواحدة، أو على مستوى المجتمع الكبير في تشكله الواسع من الأسر؛ صغيرها وكبيرها؛ لأنه من دون ذلك لن تجري سياقات الممارسات لدى الأفراد وفق مساراتها الطبيعية، فحالات الخروج عن سياق المسارات الآمنة التي تعطي لكل حق حقه كاملا دون نقصان؛ تشكل سلوكا فرديا وجماعيا معاشا في المجموعات، فهذه طبيعة متجذرة في الإنسان، ولن يصوبها إلا بنظم وقوانين، والـ«هياكل الهرمية» هي واحدة من هذه النظم التي ابتدعها الإنسان لتنظيم جانب كبير من حياته.
لذلك يأتي التنظيم الإداري الحديث اليوم؛ الذي تشكل في المراحل المتأخرة من العمر المعرفي للناس بتطبيق الـ«هياكل الهرمية» لتصريف شؤون حياتهم دون أن يشكل هذا التصريف قضايا وفتنًا متشابكة، أو متقاطعة فيؤثر ذلك على مصالح العامة، ويعرقل مسيرة الحياة اليومية، فلا تنجز لنفسها استحقاقات تنموية، من شأنها أن تدفع بالمسيرة إلى إنجاز الأكثر، فالحياة أوجدها خالقها الله سبحانه وتعالى لكي تتهيأ للناس سبل التقدم، والراحة، لكسب مزيد مما هو موجود ومتاح لهم في حياتهم الدنيا، دون الإضرار بعضهم ببعض، ودون الدخول في متون الصراعات التي تعرقل مسيرة الحياة، ولا تقدم لها مكاسب تعلي من شأن هذا الإنسان -خليفة الله في الأرض- ولا تنهك قواه المادية والمعنوية على حد سواء، ولذلك ينظر إلى الـ«هياكل الهرمية» بكثير من الاهتمام، ولذلك لن يخلو أي تنظيم إداري حديث عن ترسيمها وإقرارها كواحدة من عمليات التأسيس للهيكل الإداري، وفي ذلك؛ بلا شك مكاسب كثيرة، تدركها المجموعة الإدارية، وقِس الفكرة ذاتها على التنظيم الأسري في المجتمع الواحد.
تمثل الـ«هياكل الهرمية» أهمية كبيرة؛ كما جاء أعلاه؛ وعلى وجه الخصوص؛ في بناءات مؤسسات الدول، وللدولة نفسها أهمية كبرى في هيكلتها العامة والشاملة، فدون هذه الهيكلية تتلبس ممارسات الأفراد في الدولة كلها الكثير من العشوائيات، والارتباكات، حيث تكون الأمور مباحة، لا يحدها قانون حازم، ولا يعرقل مسيرتها عرف، والناس منساقون نحو ما يحقق لهم رغباتهم الذاتية فقط، دون النظر إلى ما ينفع الآخرين أو يضرهم، ولذلك تشكل الـ«هياكل الهرمية» ضمن أهميتها الكبرى حواجز مانعة لكثير من التجاوزات التي قد يتبنّاها الأفراد عن قصد أو غير قصد، وإن كان أغلب الممارسات في تجاوز الـ«هياكل الهرمية» مع سبق الإصرار والترصد، للمعرفة المسبقة أن هذا النوع من التنظيم الإداري يحد كثيرا من عمليات التجاوزات، لأنه لا يعقل أن يجتمع الجميع على ضلالة، فلا أن يكون هناك من يقول في أمر ما «لا» وصاحب هذا الأمر؛ لا بد أن يستند إلى نظام إداري معين، توجده له الـ«هياكل الهرمية» ولذلك؛ فعمليات التنظيم التي تقوم بها هذه الهياكل لها دور كبير في الحد من كثير من الممارسات الخاطئة، وفي الحد من الأخذ من دون حق، مع ضرورة تحقق الأمانة والصدق والإخلاص ضمن تسلسل هذه الهرمية في كل بيئة سواء أكانت بيئة عمل، أو بيئة أسرية، أو بيئة اجتماعية أكبر، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا التنظيم وفق الـ«هياكل الهرمية» يعطي الدولة هيبتها، ومكانتها وسط مجموعات الدول التي تحتكم إلى الـ«هياكل الهرمية» لتنظيم شؤون ممارساتها العملية في مختلف مؤسساتها الإدارية والفنية.
وارتباطا بذات المفهوم أو المصطلح يحضر مصطلح الدولة الرخوة والدولة العميقة كنتائج لإشكاليات التطبيق التي تقع فيها الـ«هياكل الهرمية» وما ينتج عن ذلك من مفاسد وأضرار جسيمة يتحمّل أعباءها كل أبناء الشعب، وإن تربّحت من ذلك فئة صغيرة لا ضمير لديها ولا أمانة ولا مسؤولية، لأن الـ«هياكل الهرمية» على أهميتها فإنها تبقى مسألة تنظيمية في ذات المساق (الإداري/ الفني) للمؤسسات، ويجب أن يستشعر من هم في هذه التراتبية الإدارية بأهمية هذا التنظيم، لأن الـ«هياكل الهرمية» لن تعمل من ذاتها دون أن يكون هناك شعور لدى الذين يتدرجون وفق تراتبياتها بأهمية المسؤولية التي هم يمثلونها، ومجموعة الاستحقاقات التي تتطلبها الـ«هياكل الهرمية» فذاتها -كمفهوم- لن تكون لها القدرة الضبطية لضبط أخلاقيات الناس، وتوجيه مساراتهم نحو الصدق والأمانة، وعظم المسؤولية، فهي في النهاية مفهوم تم التوافق عليه بين المجموعة الإنسانية لتنظيم شؤون حياتهم وممارساتهم؛ بمعنى أنها استشعار ذاتي أكثر من أنه مادي، ولأنه ذاتي؛ فمن هنا يأتي استغلالها من خلال مجموعة الصلاحيات الممنوحة وفق التراتبية الموجودة في كل مؤسسة، والتي يستغلها ضعاف النفوس، فيتجاوزون صلاحياتهم الإدارية والفنية، فيمارسون أفعالا تكون؛ غالبا؛ خارج القانون، وبالمقاربة ذاتها يمكن أن يحدث ذلك على مستوى الأسرة الواحدة عندما يقوم رب الأسرة بأفعال مشينة وفاضحة، ويعرّض أسرته للقيل والقال؛ فقط؛ لأنه هو المتحكم بمصير أسرته، دون مراعاة لمشاعر أفرادها، فكلا الأمرين خطيران على الحياة العامة.
وعودة إلى مصطلحَي الدولة الرخوة والدولة العميقة؛ وارتباط ذلك بالـ«هياكل الهرمية» فكلاهما على صلة وثيقة بالآخر، فغالبا؛ الذين يتجاوزون القوانين والنظم، ويعطلون القوانين الإدارية المنظمة هم من الذين يكونون وفق التراتبيات الكبرى في الـ«هياكل الهرمية» وكلما علت المسؤولية كانت هناك صلاحيات أكبر وأشمل، وفي ذلك كله تكبر الأهمية، وتكبر خطورة التجاوزات إن حصلت، فالذين في الدرجات الأدنى من السلم الوظيفي لن تكون عندهم الصلاحيات الحساسة والمهمة، وبالتالي فممارساتهم الإدارية غير المتوافقة مع النظم القوانين، لن تكون بتلك الأهمية التي تقوض المسؤوليات الكبرى للمؤسسة، وتحيلها عن أهدافها المرسومة لتحقيقها، وبالتالي ينعكس ذلك على سمعة الدولة ككل، بخلاف المستويات الإدارية العليا الذين تكون عندهم الصلاحيات في اتخاذ القرارات الحساسة والمهمة، وبالتالي فخروج مثل هؤلاء عن النظم الإدارية للمؤسسة، لا يعرّض المؤسسة فقط للخطر، بل يعرّض الدولة كلها للخطر، ويسقط هيبتها، ويتيح الفرص الكبير للنيل منها، سواء على المستوى الداخلي -داخل الدولة نفسها- أو على المستوى الخارجي، من خلال علاقات المصالح الخاصة؛ غير المعلنة؛ حيث تكون لمثل هذه المستويات الإدارية الكبرى في الدولة القدرة على إخفاء مجموعة الممارسات التي يقومون بها بعيدا عن أعين الرقابة الإدارية والمالية للدولة، وبالتالي؛ أيضا؛ متى تنامت مثل هذه الممارسات وأشيعت بين صغار الموظفين؛ من ذوي تراتبيات الـ«هياكل الهرمية» الأدنى؛ وقعت الدولة في ذات التصنيف الدولة (الرخوة/ العميقة).
ومما توجب الإشارة إليه في هذه المناقشة؛ أن تطور الحياة في المجتمع يتطلب أكثر وجودا لـ«الهياكل الهرمية» في الدولة، فالمجتمعات المركبة بثقلها السكاني لن تستطيع الأعراف والتفاهمات المجتمعية تنظيمها، وضبط ممارسات أفرادها الخاطئة، فلا بد من وجود هذه الهياكل الضابطة للأمن الاجتماعي في مختلف مناخاتها الأمنية، والاقتصادية، والدينية، والثقافية، والاجتماعية، والسياسية، لأن كل واحد من هذه المعززات للأمن القومي لها دور كبير في المجال الذي تعمل من خلاله، وفي تكامل الأدوار لدى مجموعها؛ بلا شك؛ سوف تهنأ المجموعة الإنسانية بالأمن والاستقرار، فوق أن ذلك يجنب الدولة من الوقوع في مأزق التصنيف المسيء للدولة (الرخوة/ العميقة).
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني
0 تعليق