خبيئة أحمد الشهاوى فى معرض الكتاب: مختارات نادرة لـ3 من أهم الشعراء المصريين

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

فى خطوة تهدف لإعادة إحياء تراث الشعر العربى القديم، أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب ٣ أعمال مهمة ضمن سلسلة «ديوان الشعر المصرى»، تحمل توقيع الشاعر الكبير أحمد الشهاوى، الذى تولى اختيار النصوص وكتابة المقدمة لها، والتى تُطرح فى معرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته المقبلة.

الأعمال الثلاثة عبارة عن مختارات شعرية ثمينة لثلاثة من أبرز شعراء التراث العربى والمصرى، وهم «ابن الكيزانى»، و«المُهذَّب بن الزُبير»، و«ابن قلاقس».

وتهدف هذه المختارات إلى إبراز الجوانب الجمالية والإبداعية للشعر العربى والمصرى القديم، وتعريف الأجيال الجديدة بهذا التراث الأدبى الغنى، حيث اعتمد أحمد الشهاوى فى إعدادها على دراسات بحثية دقيقة وعميقة تُبرز عبقرية الشعراء وأثرهم فى المشهد الثقافى آنذاك.

وتأتى هذه الخطوة كمساهمة ثقافية قيّمة من هيئة الكتاب لتعزيز الوعى بالهوية الثقافية المصرية، وربط الحاضر بالماضى من خلال الشعر الذى يظل شاهدًا حيًا على روح الزمن وجماليات اللغة.

فى السطور التالية، تستعرض «الدستور» مقتطفات من المقدمات التى كتبها «الشهاوى» للإصدارات الثلاثة، وتتضمن توضيحًا لملامح شخصية ومسيرة كل شاعر وأثره فى المشهد الشعرى وطبيعة وفنيات كتابته. 

 

«ابن الكيزانى» نشر الصوفية فى مصر.. كتب فى الحب الإلهى.. واتُهم بالزندقة

 

هو ابنُ القلب لا الجوارح، جاهَدَ وكابَدَ، ونحَا نحوًا مُختلفًا كعادة أهل التصوُّف فى زمانه أو الأزمنة السَّابقة عليه، حتى وصَلَ إلى مقام القُرب من الله، وحلَّ مشكلتَهُ الرُّوحية شِعرًا ونثرًا الذى ضاع أغلبُهُ وفُقِدَ، وأقام من الدين أساسًا للتصوُّف، جمعَ بين الحقيقةِ أى المعنى الباطن المُستتر وراء الشَّريعة، والشَّريعة أى الرسُوم والأوضاع التى تُعبِّر عن ظاهر الأحكام وتجرى على الجوارحِ، أو بين علم الظاهر والباطن.

كان شيخًا للمصريين فى زمانِه فى الميدانين الشرعى والصوفى، انشغل بشِعْر الحُب والغزل الإلهى. نشرَ التعاليمَ الصُّوفيةَ فى مصر فى تحدٍّ كبيرٍ لسلطان الفاطميين وقتذاك حيث كانت مصرُ فاطميةً، كأنه كان يُمهِّد لعودة دولة بنى العبَّاس إلى مصر من خلال صلاح الدين الأيوبى الذى تواطأ مع الكيزانى للقضاء على الدولة الفاطمية عبر السلطان نورالدين زنكى.

وقد ضايقهُ كثيرًا بعضُ مُعاصريه من الفُقهاء والأئمة وحسدُوه على مكانتِه، إذْ كان شاعرًا شهيرًا فى زمانه؛ فآثرَ الانعزالَ، ولم يجد سِوى الجبل مأوىً له، فأكثر من خلواته، ولمَّا جاءهُ الموتُ ودُفِنَ، نُبشَ قبرُهُ وأخْرِجَتْ جُثتُه لتُدفنَ فى قبرٍ آخر؛ لأنه لا يجُوزُ من وجهة نظر نابشِ القبر دَفنُ الصدِّيق إلى جوار الزِّندِيق، لقد كان خِلافًا أيديولوجيًا، حيث اعتبره النبَّاشُ من الكُفَّار والمُشركين، مع أنَّ الحُرية مكفُولة للجميع فى ذلك الزمان وفى كل زمان.

 وقد لُقِّبَ بالكيزانى نسبةً إلى صناعة الكُوز، والكِيزان الأكواب التى تُصْنَع للشُّرب، المُفردُ منها كُوزٌ، وسُمِّى بالمصرى تارةً وبالكِيسانى تارةً أخرى، كان مُفرطًا فى زُهدِهِ وتقشُّفِهِ وورَعِهِ، لا يعرفُ أحدٌ مكانًا ولا زمانًا لولادته، ومن يتأمَّل نصوصَهُ الشِّعريةَ سيلحظُ كثرة ورُود مفردة «الحبيب»، مما يشيرُ إلى تجاربه الكثيرة فى العِشق.

ويُعدُّ رائدَ شِعْر التصوُّف فى العصر الفاطمى بمصر، وقد استقدم فى النصف الثَّانى من القرن السادس الهجرى مُتصوفةً من المشرق والمغرب إلى مصر من أبرزهم عبدالرحيم القناوى، المغربى ابن سَبْتة الذى قضى واحدًا وأربعين عامًا من عمره فى صعيد مصر، وأبوالحجَّاج الأقصرى. ولابن الكيزانى كتابان فى الوعظ والإرشاد هما «الرقائق» و«مليك  الخطب».

وما يلفت الانتباه ويدعُو للدَّهشةِ أنَّ شِعْرَ ابن الكيزانى الذى وصل إلينا ليسَ فيه إشارةٌ واحدةٌ ظاهرةٌ أو باطنةٌ واضحةٌ أو خَفِيَّةٌ مُستترةٌ تشيرُ إلى الزَّندقة التى ألصقها الكارهون بابن الكيزانى، وجرى شعرُهُ الصُّوفىّ مجرى أصحاب مذهب الحُبِّ الإلهى، وقد ذكرَهُ أهلُ الظَّاهر والباطنِ معًا فى كُتبهم؛ لمكانتِهِ الفقهية والصوفية.

 وكان المصريون الذين تحلَّقُوا حول ابن الكيزانى «المعروف بابن الكيزانى المصرى» يُردِّدُون أشعارَه؛ لأنه يتسمُ بالسَّلاسةِ والسُّهولةِ والعُذُوبةِ التى عُرفَ بها شِعرُ المصريين عُمومًا مثل عُمر بن الفارض وبهاء الدين زُهير وابن نُباتة المصرى وابن سناء المُلك وابن النبيه وابن قلاقس.

 

«ابن قلاقس» لُقّب بـ«الإسكندرى».. أحب السفر وركوب البحر.. ورياض السُّنباطى لحّن إحدى قصائده

 

يكادُ يكونُ «ابن قلاقس» شاعرًا مجهولًا فى ثقافتنا العربية، على الرغم من أنَّ خليل مطران قد قدَّم فى بدايات القرن العشرين الميلادى منتخباتٍ من شِعْره، لكنها للأسف لم يُعد طبعها.

كما لا توجدُ دراساتٌ أكاديميةٌ كافيةٌ حول شِعْره وحياته الغامضة الغريبة الملأى بالعجائب، إذْ إنه ابن السَّفر والرحلة، وأيضًا هو لم يعش حياةً طويلةً مثل غيره من شُعراء عصره، ولا أحد يذكُرُه ولا أحدَ يطبعُ شعرَهُ الذى كان شهيرًا فى زمانه؛ كى يكونَ مُتاحًا أمام قارئ الشِّعْر خُصوصًا، والقارئ بشكلٍ عام.

هو شاعرٌ غريبٌ فى سلوكه وحياته، مات ولم يبلغ الأربعين من عُمره  فى عيذاب على شاطئ البحر الأحمر شوال سنة ٥٦٧ هجرية، وهو المكانُ نفسُه الذى مات ودُفِنَ فيه القُطب الصوفى أبوالحسن الشاذلى بعد ابن قلاقس بنحو مئة سنة.

عاش ابن قلاقس- وقلاقس: بقافيْن، الأولى مفتوحة والثانية مكسُورة وبينهما لام ألف وفى آخره سين مُهمَلة، وهو جمع قلقاس بضم القاف وهو معروف- فريدًا سائحًا جوَّالًا، جوَّابَ آفاقٍ، كان كثيرَ الترحال، مُحبًا لركوب البحر، وزاد من ذلك اشتغاله بالتجارة، وعبَّر عن هذا الحُب بقوله: «والناسُ كُثْرٌ ولكنْ لا يُقدَّرُ لى إلا مُرافقةُ الملاّحِ والحادى».

ورُبَّما يكون الفضلُ الأكبر للتعريف به يعُود إلى الموسيقار رياض السنباطى عندما اختار من شعره قصيدة «كتمتَ الهوى حتى أضرَّ بك الكتْمُ» لتغنِّيها المطربة المصرية اللبنانية سعاد محمد.

كان يُلقَّب بالمجيد والبليغ، وبالقاضى الأعزّ، وكان على غير عادة شُعراء مصر قد استقر بصحراء عيذاب، لتوسُّطها بين مصر والحجاز واليمن، تبعًا لاقتضاء مصالحه التجارية.

عاش فى القرن السادس الهجرى  زمن الخلافة العباسية، وهو سكندرىّ النشأة والتكوين، ولذا هو ابن البحر والطَّبيعة فى شِعره، وقد ركب البحرَ كثيرًا، وتوجَّه عبره إلى صقلية- وكان له فيها أصدقاء يكاتبهم ويكاتبونه- واليمن، وكان له رسائلُ كثيرةٌ مع عددٍ من الأمراء منهم عبدالنبى بن مهدى صاحب زبيد، وكان طوَّافًا بين زبيد وعدن، إذْ كان كثيرَ الترحال، فقد سافر إلى جزيرة صقلية فى سنة ٥٦٣ هـجرية، وكان كثير التردُّد على ميناء عيذاب المطل على البحر الأحمر، وفى ٥٦٥ هـجرية أبحر إلى مدينة عدن باليمن، وكانت تربطه صلاتٌ وثيقةٌ مع عددٍ من أمراء وحُكَّام اليمن، ومع رحلة العودة ارتطمت سفينته بصخرة قُرب إحدى جُزر البحر الأحمر، فخسر جزءًا من تجارته وأُتلِفَ بعضُ شِعْره، فأسعفه سلطان دهلك، ومكثَ هناك مدَّة من الزَّمن. 

وابن قلاقس، المُلَقَّب بالإسكندرى «٤ من ربيع الأول ٥٣٢ هـجرية/١٩ من ديسمبر ١١٣٧ ميلادية- ٣ من شوال ٥٦٧ هـجرية/٢٩ من مايو ١١٧٢ ميلادية» قد وُلِدَ لأسرةٍ عربيةٍ تعُودُ أصولُها إلى قبيلة لخم، وكانت ولادتُه فى مدينة الإسكندرية، تعرَّف إلى القاضى الفاضل ومدحه فى شعره مثل معاصريه البهاء زهير وابن نُباتة المصرى وابن سناء المُلك وابن النبيه.

وانتقل ابن قلاقس فى فترةٍ من حياته إلى القاهرة، وعُدّ هناك من زُمرة الأمراء، ثُمّ عاد إلى الإسكندرية، اتصل بعددٍ من رجال عصره كالخليفة العاضد لدين الله، وصلاح الدين الأيوبى وطلائع بن رزيك المُلقّب بالملك الصالح، وأحد وزراء الدولة الفاطمية ومن أبرز فقهائها وشعرائها، وعمارة اليمنى.

وكان ابن قلاقس شاعرًا مُكثِرًا، نُشِرَ ديوانه فى سنة ١٩٠٥ ميلادية بتحقيق الشَّاعر خليل مطران «١ من يوليو ١٨٧٢- ١ من يونيو ١٩٤٩ميلادية» فى مصر، وكان مخطوط ديوانه فى خزانة الشَّيخ على اللَّيثى بمصر، وفى المكتبة الأهلية بباريس، مخطوطة «رقم ٣١٣٩»، ولابن نُباتة المصرى «مختارات من ديوان ابن قلاقس»، كما تُنسب إليه كتبٌ أخرى من أشهرها: «الزهر الباسم فى أوصاف القاسم».

وممَّا يُؤسف له أنَّ الذى جمع ديوان ابن قلاقس قد حذفَ منه ما لا يُعجِبُهُ، وقد كان ينبغى أن يتركه كما هو، ولا يصدر حكمًا على شاعرٍ ويدع التاريخ والنقاد يمارسُون أحكامهم.

 

«المُهذَّب بن الزُبير» أسوانى النشأة.. وفسّر القرآن ودرس علم الأنساب

 

عاش قلقًا طريدًا وسجينًا، من فرط ما شاهد فى مسيرته، صادفَ مُؤامراتٍ حينما اقترب من أصحاب السُّلطان، ولم يكُن فى زمانهِ أشعرَ منه، جملةٌ تتردَّدُ كثيرًا فى المصادر التاريخية. وبسبب هذه الشعرية العالية تزعَّمَ بها عصرُهُ، وهو أشعرُ من أخيه الرَّشيد الذى مات مشنوقًا. من شُعراء القرن السَّادس الهجرى، حيثُ وُلد فى أوائله ومات فى سنة ٥٦١، أى قبل أخيه بعام، واشتهر شاعرًا فى أسوان، مسقط رأسه، قبل أن يقرِّر الرحيلَ لمدينة «القاهرة المعزِّيَّة» ودرسَ فى اليمن علم الأنساب فصار مُتمرِّسًا فيه، ووضع مُؤلَّفًا فى هذا العلم، يقعُ فى أكثر من عشرين مُجلدًا، كل مجلدٍ يتضمَّنُ عشرين كراسةً، قال عنه ياقوت الحموى فى معجم الأدباء: «رأيتُ بعضه فوجدته مع تحقُّقى بهذا العلم وبحثى عن كتبه لا مزيد عليه»، وقال أيضًا إنه: «كان كاتبًا مليحَ الخطِّ فصيحًا جيدَ العبارة...».

كما تعمَّق  فى علوم القرآن، وألّف تفسيرًا لكتاب الله، تقولُ المصادر إنه يقع فى خمسين جزءًا. ومن هنا يأتى سبب اقتباسه من القرآن والحديث فى متْنِ نصِّه الشعرى، وله أيضًا كتاب هو «جنان الجنان ورياض الأفهام» ولُقِّب بالقاضى والمُهذَّب. و«كانت فترة إقامته فى اليمن من أخصب فترات حياته العلمية، وعندما رجع إلى القاهرة لم يطل به المقام أكثر من عدة أشهر حتى تُوفى فيها»، وكانت السلاسةُ من أبرز سماته فى الكتابة الشعرية، حيثُ إن لغته بعيدةٌ عن الغرابة، ومعانيه واضحةٌ لا تعقيدَ فيها ولا التواءَ، فشعريته خصبة والقارئ لشعره يلحظ أيضًا ظاهرة تضمينه نصوصه من شعر الأسلاف من الشعراء القدامى مثل امرئ القيس والمتنبى.

وذو ثقافةٍ عربيةٍ متنوعةٍ، حيث وُلد لعائلةٍ ميسورة الحال معروفة بالمال والرياسة، حرصت على تكوينه ثقافيًا ودينيًا، ومع ذلك فقد طواه النسيانُ حيث لم يلتفت إليه إلا قليلٌ من الباحثين والدارسين، وعلى الرغم من أنه ينتمى فى الأصل إلى أسوان ويُكنَّى بها «الأسوانى» فإن جامعة أسوان أو جامعات الصعيد لم تدرس شعره وحياته فى رسائل الماجستير والدكتوراه.

ما وصل إلينا من شعره قليلٌ، وهذا ما حدث بالمثل مع شعر أخيه، وما صار مُتاحًا لا يمثِّلُ الديوانَ الشعرىّ الكامل بل هى مُنتخباتٌ أو قل إنَّها نماذجٌ مختارةٌ من شعره، كانت مبثوثة فى بطون أمهات الكتب، جمعها الباحثون والمُحقِّقون من كُتب الأسلاف فى التراجم والسِّيَر كانوا يتمثَّلون بها ويستشهدون. كما أنَّ الدولة الأيوبية قد طمست وأحرقت وأغرقت أغلب مكتبات الدولة الفاطمية إثر انهيارها. وقد نُشِرَ ديوانه فى عام ١٩٨٤ بتحقيق محمد مصطفى رضوان، وهناك كتابٌ ثانٍ للدكتور محمد عبدالحميد سالم، حيثُ عكف على جمع شعر المهذَّب بن الزبير وأصدره سنة ١٩٨٨ فى كتاب عند دار نشر مصرية.

كما أن الدكتورة سعيدة محمد رمضان قد نشرت كتابًا عنوان «شعر الرشيد والمهذب: من أعلام الأدب العربى فى مصر، فى القرن السادس الهجرى». مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية، دار الوفاء- الإسكندرية. الطبعة الأولى٠ ٢٠١٢ م.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق