حكاية تترجم براعة الأجداد في التكيف مع الطبيعة رغم قسوتها

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تقاليد ظفارية أصيلة في تسخين الحليب باستخدام الأحجار

حفظ الطعام وطهيه كان ولا يزال من أهم احتياجات الإنسان عبر العصور، ومنذ القدم، اجتهد البشر في ابتكار أدوات ووسائل لحفظ الأطعمة والمشروبات وتقديمها بأفضل صورة، ومع التطور المستمر، تحققت العديد من الابتكارات التي تجمع بين الجماليات والوظيفية في تقديم الأطعمة.

وفي قلب جبال ظفار الشامخة وتحديدًا في نيابة طوي أعتير التابعة لولاية مرباط، تروي إحدى الأسر الظفارية قصة تقليدية تعكس حكمة الأجداد وإبداعهم في التكيف مع الطبيعة رغم قسوتها، فقد ابتكر سكان الجبال أسلوبًا فريدًا لتسخين الحليب باستخدام مواد طبيعية محلية، مدمجين في ذلك بين الفكر الإبداعي واستغلال البيئة دون تعدٍ.

تبدأ الحكاية بجمع الحطب من جبال ظفار القريبة، حيث يتم اختيار أنواع محددة من الحطب، مثل شجرة السقوت، التي تُستخدم لإشعال النار، يتم تحديد نوع وحجم الأحجار بعناية، حيث توضع على الحطب المُوقد حتى تتحول إلى جمر متوهج بلون أحمر، وفي هذه اللحظة، تُحضَّر أواني تقليدية مصنوعة من السعف والجلد، وتُسمى محليًا بـ"قعلو"، وتُملأ بالحليب الطازج، ويُثبت الإناء بعناية على الأرض بالقرب من النار.

وبعد أن يصل الجمر إلى حرارته القصوى، تُلتقط الأحجار المتوهجة باستخدام أدوات بدائية تُسمى "معبذب"، وهي معالق خشبية تُصنع من شجرة "كليت" وتتميز أحيانًا بنقوش حول المقبض، وتُسقط الأحجار المشتعلة في الإناء المملوء بالحليب، وعند بداية فوران الحليب، ينبعث منه بخار يحمل رائحة تجمع بين عبق الحطب ونقاء الحليب، وعند هذه اللحظة، قد يتطلب الأمر إضافة حليب بارد لتخفيف الحرارة، ما يتيح للحليب أن يغلي دون أن يفيض.

وهذه الطريقة التي قد تبدو بسيطة للوهلة الأولى، تحمل في طياتها قصة من التكيف والابتكار، وتجسد قدرة الإنسان على استخدام الموارد الطبيعية بأسلوب يتسم بالأصالة والجمال، فهذه الطريقة ليست مجرد وسيلة لتسخين الحليب، بل إرث يربط الأجيال بحكاياتهم التي تُروى تحت سماء جبال ظفار منذ قرون.

وفي لقاء مع محمد بن أحمد شيداد الشحري، أحد سكان منطقة طوي أعتير الذي يبلغ من العمر 55 عامًا، يروي لنا كيف أن أسرته استمرت في تمسكها بهذه الطريقة التقليدية في تسخين الحليب بعد وفاة والده رحمه الله.

وقال الشحري: إنه بدأ بمشاهدة والده وهو يقوم بهذه العملية منذ أن كان في السادسة من عمره، حيث كان يتم تسخين الحليب باستخدام الأحجار على كومة من الحطب المحلي المسمى "مشرفت"، وكان معظم سكان جبال ظفار يتبعون الطريقة نفسها في تلك الفترة بسبب ندرة الأواني المعدنية وصعوبة التنقل.

وأضاف: بالرغم من التغييرات التي طرأت على نمط الحياة ووفرة الأدوات العصرية، إلا أن أسرتنا لم تتخلَ عن هذه الطريقة التقليدية في تسخين الحليب، رغم ما تحمله من مشقة وصعوبة، سواء في جمع الحطب أو آلية التسخين.

واستطرد قائلًا: الحطب أصبح الآن نادرًا وصعب الوصول إليه، وبعض المناطق تعاني من التصحر، مما يجعل الحصول على الخشب المناسب أمرًا شاقًا، ومع ذلك، لا نزال متمسكين بهذه العادة التي تعكس جزءًا من هويتنا وتراثنا. مشيرا إلى سعادة أسرته الكبيرة في استقبال الضيوف وتقديم الحليب المسخن بالطريقة التقليدية، حيث يلتف الجيران والزوار حول الجلسات المميزة في جو من الألفة والتواصل، ويستمتع الجميع بتذوق هذا الحليب الطازج الذي يميز تراث جبال ظفار.

وأضاف: يوميًا، نقوم بتسخين نحو 30 لترًا من الحليب الطازج في وعاء تقليدي كبير يسمى "مخلات"، وهو مصنوع من سعف الغضف وجلد الماعز، ويستغرق صنعه حوالي شهر كامل، ويصل سعر هذا الوعاء إلى أكثر من خمسين ريالًا عمانيًا، ويعد رمزًا من رموز الصناعات اليدوية المحلية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق