دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- لا يبدو أن قرية لاي تشي وو تنتمي إلى هونغ كونغ، فهي محاطة بجبال تكسوها الغابات ويلفّها الضباب، وغنية بالأراضي الزراعية الخضراء، والأمواج الزرقاء الفولاذية اللون التي تتكسّر على السهول الطينية التي تغصّ بأشجار المانغروف.
هذه القرية النائية التي يبلغ عمرها 300 عام، تعتبر إحدى أقدم المستوطنات في المدينة، وبين الأكثر تنوعًا بيولوجيًا.
أما موقعها فليس مصادفة: فهي تستلهم الفلسفات التقليدية لشعب هاكا، إحدى المجموعات الأصلية في هونغ كونغ قبل الاستعمار، التي بنت المستوطنة.
وقالت سوزان وونغ، الجدة البالغة من العمر 73 عامًا ورئيسة القرية: "نحن نحافظ على ما يسمى بغابة فنغ شوي، للحفاظ على القرية".
وُلدت وونغ في قرية لاي تشي وو عندما كان عدد سكانها حوالي 1000 نسمة. وفي حديثها مع CNN أشارت إلى أنه "منذ أسلافنا إلى يومنا هذا، ثمة مبدأ يقضي بعدم السماح لأي شخص بقطع الأشجار. إذا قمت بقطع جميع الأشجار، فسوف يصبح الجبل عاريًا، ولا يمكن لأي شيء أن يغطي القرية".
وتتمحور فلسفة فنغ شوي، والعبارة تعني حرفيًا "الريح" و"الماء"، حول كيفية ترتيب المنازل والقرى والمدن من أجل جلب حسن الحظ.
في لاي تشي وو، يهدف موقع الغابة إلى حماية القرية من الأعاصير، ومنع الانهيارات الأرضية، وإدارة الحرارة والبرودة الشديدة.
لكن في ستينيات القرن الماضي، بدأ السكان بمغادرة موطنهم الأصلي إلى هونغ كونغ التي كانت تتطور بسرعة، وأصبح من الصعب كسب لقمة العيش من الزراعة.
وتذكرت وونغ: "لم يكن لدينا حتى أحذية أو ملابس نرتديها".
تقع لاي تشي وو في منطقة نائية جدًا، حتى أنه لا يمكن الوصول إليها حتى اليوم إلا من خلال رحلة سير على الأقدام لمدة ثلاث ساعات عبر الغابة، أو رحلة طويلة بالقارب حول الساحل.
في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، هاجرت العديد من العائلات إلى الخارج، وعائلة وونغ بينها. انتقلت العائلة إلى المملكة المتحدة عندما كانت تبلغ من العمر 15 عامًا، بحثًا عن فرص أفضل، وتوفي السكان المسنّون.
استعادة المجتمع
على مدى العقود التي ظلت فيها قرية لاي تشي وو خاوية، انهارت المباني، وغزت الأعشاب الضارة الأراضي الزراعية.
كانت جذور أشجار البانيان تتشابك حول الأبواب المفتوحة، أما حركة المشي الوحيدة عبر القرية المنكوبة فتمثل بمرور الخنازير البرية والمتنزهون الضائعون.
لكن قرية لاي تشي وو لم تُنسَ تمامًا. يقول تشيو ينغ لام، رئيس مؤسسة ريف هونغ كونغ: "في أماكن أخرى من هونغ كونغ، انهارت منازل العديد من القرى المهجورة بشكل لا يمكن التعرّف إليها، وغزت النباتات القرية بأكملها".
لكن، عندما زار قريته لأول مرة في العام 2009، فوجئ بالعثور على العديد من المنازل التي خضعت للصيانة. ويعتقد لام أن أصحاب المنازل الغائبين ما زالوا مرتبطين بمنازلهم الأصلية، وكانوا يخطّطون للعودة يومًا ما، ربما للتقاعد.
وقد أثار هذا الأمر فكرة أصبحت في نهاية المطاف برنامج قرية لاي تشي وو المستدام، الذي يتمثل بتعاون استمر عقدًا من الزمن مع المنظمات غير الحكومية، والجامعات، والهيئات الحكومية لإعادة القرية إلى مجدها السابق.
ويقول لام إنه من خلال إعادة تأسيس المجتمع، يمكن حماية التنوع البيولوجي الفريد حول القرية أيضًا.
على مرّ السنين، قدّر لام أنّ تمويل حوالي 100 مليون دولار هونغ كونغ (12.8 مليون دولار) من الشركات والمنظمات غير الربحية وحكومة هونغ كونغ تم استثمارها في إعادة تطوير القرية، ضمنًا استعادة خمسة هكتارات من الأراضي الزراعية وإعادة بناء 15 منزلاً متهالكًا.
وفيما كان المشروع يهدف إلى إعادة السكان السابقين، كان يريد أيضًا جلب أشخاص جدد.
في العام 2015، كان آه هيم تسانغ وزوجته، اللذان ليسا من هاكا، من أوائل العائلات التي انتقلت إلى القرية، بحثًا عن حياة "أقرب إلى الطبيعة" لتربية ابنهما الرضيع آنذاك.
وإسوة بالعديد من السكان في لاي تشي وو، يعمل تسانغ في مجموعة متنوعة من الوظائف: فهو يزرع الخضار، والمحاصيل النقدية، في مزرعة صغيرة، وفي عطل نهاية الأسبوع، يدير "تجربة هاكا" للإقامة المنزلية، ومتجرًا يقدم الشاي والقهوة والآيس كريم النباتي، محلّي الصنع، للسيّاح الذين يقصدون القرية.
وبحسب تسانغ: "أزرع هذه الخضار أيضًا لبرنامج إجازتي، (لتجربة) تناول الطعام من المزرعة إلى المائدة"، مضيفًا أنّ تجربة هاكا مصمّمة لمنح الزوّار تجربة أكثر أصالة لحياة القرية. وتابع: "يمكنك حقًا الشعور بالهدوء وسكينة الطبيعة هنا. آمل أن يتمكن المزيد من الأشخاص البقاء لفترة أطول والاستمتاع بالوتيرة البطيئة".
العودة إلى الوطن
شجّع تدفق السكان الجدد إلى لاي تشي وو المزيد من السكان الأصليين على العودة أيضًا.
بعد التقاعد، عادت وونغ إلى هونغ كونغ من المملكة المتحدة لرعاية والديها المسنين، وسمعت عن مشروع الإحياء.
في العام 2019، قررت العودة إلى القرية مع والدها الذي يبلغ من العمر الآن 103 أعوام، إلى المنزل الذي ولدا فيه. تقول: "أنا سعيدة للغاية لأنني أحب هذه القرية. لدي الكثير من الأصدقاء (الذين) عادوا".
تدير وونغ مع والدها مزرعة صغيرة لزراعة اليوسفي، والليمون، والفلفل الحار، والزهور، والخضار، وتستخدم تقنيات الزراعة العضوية، مثل طحن قشور المحار المهملة لصنع غذاء للنباتات.
كما قدم المشروع محاصيل جديدة مثل البن، الذي ينمو في الظل. تحمي تقنية الزراعة الحرجية هذه الغابة من خلال زراعة نباتات عالية القيمة حول محيط الغابات الأصلية، ما يعزّز أرباح المزارعين.
يقول رايان سيو هيم ليونغ، كبير مسؤولي المشروع في مركز المجتمع المدني والحوكمة بجامعة هونغ كونغ، الذي أشرف على أجزاء من برنامج تنشيط قرية لاي تشي وو، ولديها الآن حوالي 700 نبتة بن في العديد من المزارع، ما يجعلها "أكبر منطقة لإنتاج البن في هونغ كونغ".
تستأجر جامعة هونغ كونغ بعض الأراضي للزراعة التجريبية، وتساعد القرويين على تحويل محاصيلهم إلى منتجات ذات قيمة أعلى في مصنع مرخص لتجهيز الأغذية في شا تاو كوك القريبة، على حدود هونغ كونغ مع البر الرئيسي للصين. وتشمل المنتجات المخللات، ومربى الفاكهة غير العادية، أو الأطعمة الموسمية مثل كعكة الفجل الشعبية للعام الصيني الجديد، بحسب ليونغ.
ولفت إلى أنهم ينظرون أيضًا "إلى وصفات هاكا التقليدية، ونحاول استكشاف إمكانية تحويل هذه الوصفات إلى منتجات تجارية"، مضيفًا أنهم يبيعون حاليًا من خلال موردي السوبر ماركت المحليين وأسواق المزارعين المؤقتة، ويخطّطون لإطلاق متجر عبر الإنترنت قريبًا، للوصول إلى المزيد من العملاء.
نموذج لإعادة التطوي
في حين حاز المشروع باهتمام إيجابي، بما في ذلك الاعتراف من اليونسكو في عام 2020، للحفاظ على التراث الثقافي والتنمية المستدامة، إلا أن كل شيء لم يكن سلسًا.
كانت هناك مقاومة من بعض القرويين الأصليين الذين يزعمون أنه لم يتم التشاور معهم بشكل صحيح بشأن إعادة التطوير.
بالإضافة إلى ذلك، بعد أكثر من عقد من الزمان على المشروع، لم تصبح القرية مستدامة ماليًا، ويدعمها التمويل الخارجي، بما في ذلك الإعانات الحكومية للمزارعين.
إن الزراعة على هذا النطاق الصغير غير مربحة. لذا، على غرار تسانغ، فإن معظم السكان لديهم مصادر دخل متعددة.
يقول ليونغ إن معظم السكان الجدد يعملون عن بُعد عبر الإنترنت، أو في صناعات إبداعية، حيث تعتبر الزراعة هواية أي دخل تؤمنها هو بمثابة مكافأة.
وأشار ليونغ إلى أنه بصرف النظر عن الحفاظ على نمط الحياة التقليدي للمدينة، هناك ميزة بيئية للحفاظ على الأراضي الزراعية: تساعد الزراعة المستدامة على إدارة تصريف المياه بشكل أفضل، وتحسين صحة التربة. حتى لو لم تكن القرية مستقلة اقتصاديًا، فإنه يشعر أنها تستحق العناء، وأنّ تنمية مجتمع مستدام أكثر أهمية.
0 تعليق