وأنت توقظين الصباح من منامته
نستيقظ نحن أطفالك الجوعى إلى الحلم
نسرح بين الحقول وفى المراعى أو نذهب إلى الدرس
نطارد شيئًا منك ما زال من ليلة البارحة
وأنت تخضّين لنا اللبن
وتتركينه مع الخبز
يشرق حنانك من مدامعنا
وحين تحمر الوجنات الصغيرة من أثر الشمس والتعب
كنت تأخذيننا إلى حضنك العميق
وأنت تنادين على المطر المنسكب على قمم الجبال البعيدة
«كريم، كريم، الله يقربك من بعيد»
نجلس على ضفة الوادى مأخوذين بالهدير وبخبز مدهون بسمن البقر الذى تبقينه مخبأ فى مكان آمن
وأنت تلبسين العيد ملابسه يشرب المكان رائحة بخورك وتطلقين عليها رائحة العيد
وأنت التى ضمخت أقدامنا بالحناء
كحّلت عيوننا بالأثمد
وغسلتنا بورق السدر
ثم أخرجت قارورة ذهبية من سحارتك المعدنية لترشى على ثيابنا
نفحات من الأبد
ذلك الهابط الصاعد فى المكان
الساكن فى أرجاء البيت وفى طرقات الحارة
المستلقى على سواقى الأفلاج
الناهم البارد النارنجى الياسمينىّ الشورانىّ الريحانىّ الصندلىّ الجبلىّ
المعجون بالآس وزيت الشوع
المائى فى لهفتنا لشربه رشفة رشفة
الصباحى كلما أشرقت شتاء
والمسائى حين نئوب من ركضنا كل صيف
ذلك الحنون مثل لحافك الذى نحظى به كلما هاجمنا النوم بغتة فتغطينا به
الشفاف مثل صفحة الماء فى برك الوادى
العذب كموسيقى
الهاطل من أسقف البيت المتشقق
الساكن تحت أظفارنا
الواهب العبق المتضوع
الناهب أحزاننا
الحبيب الذى لا ينفك عن زيارتنا على غفلة
الأمين على قلوبنا الوجلة من غيابك
الناصع البياض مثل الرأفة المقطّرة من عينيك
الراقص الحذق كزوابع القيظ
المتوغل فى مساماتنا وأحلامنا
المائى فى لهفتنا لشربه رشفة رشفة
السماوىّ فى زرقته المشوبة بالغيم
والغيبىّ الذى نعرفه ولا ندركه
يجىء فجأة ويمضى
أفتح سحارتك ويتسرب منها
أسحب أنفاسى محاولًا القبض عليه
فيهرب ساخرًا منى
ثم أفتش عنه بين أغراضك ولا أجده
أخاف منه
أخاف من عطرك يا أمى
أخاف من العطر الذى يندس فى حقيبتك الجلدية
هناك حيث خاتمك الفضىّ يضىء كل أيامى القديمة
هناك
من عمق غيابك يجىء ذلك العطر
ذكرتنى رائحته بطفل ملطخة أقدامه بالتراب
وهو يركض حافى القدمين
آه من تلك الرائحة التى لا تزال تعبق فى زوايا المكان
الرائحة الرابضة بين مكحلة الفضة وعلبة الصندل
أبحث عن أصابعى
الحناء يحملنى إلى إصابعك الناحلة المعروقة
يزهر فى كفك بساتين وغابات
أبحث عن صوتى
هسهسة الأقمشة المرتبة بعناية
وسوسة مسبحتك الحجرية
طغيان البخور
أبحث عنك
يأخذنى العطر إلى الطفل الجائع حين يقترب من موقد الخبز منتظرًا أن تمدى إليه برغيف مدهون بالسمن وبقبلة على خده
أبحث عنك فى عطرك
فى رائحته التى تضمخت بها جدران البيت
وأبحث عن ذاكرتى التى تقودنى كل مرة
إلى البكاء
0 تعليق