في الذكرى الثالثة لغيابه.. محمد الحموري: الهروب منه أم الهروب إليه؟

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
عمان - لبعض الرجال "دوي لا ينسى. ورغم تباعد المسافة الزمنية بين عالم الوجود وعالم الخلود، فحضورهم طاغ، وغيابهم يثقب الروح والقلب، يفتق ولا يرتق. ومحض استعادتهم تبعث الأمل والدفء.اضافة اعلان
ففي مثل هذه الأيام، قبل 3 أعوام أغمض الفقيه الدستوري والمرجع القانوني، الدكتور محمد الحموري، عينيه، ورحل، وهو الذي لم يكن ليدخل عالمنا بهدوء ولا ليغادره بصمت، بل إن غيابه كان أكثر صخبا من حضوره، وهو المفكر الأردني العروبي الذي أضرم النار في العقل وغاب، وأوقد شعلة الفكرة وغادر، وألهب جذوة التأمل ومضى، على غير موعد.
وكأن مهمته طوال سنين عمره، التي ناهزت الثمانين ونيف، كانت استطلاعية بحتة، وتتمثل بشكل دقيق في تشخيص باثولوجيا السلطان المستبد، وجينالوجيا الطغيان، على غرار ما بدأه المفكر العربي عبدالرحمن الكواكبي، أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، الذي يعد أبرز مؤسسي الفكر القومي العربي، وصاحب كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، ومات بسبب الطغيان، حيث توفي متأثرا بسم دس له في فنجان قهوة العام 1902.
وقد انتهى صاحبنا الحموري في رؤاه إلى ما انتهى إليه كارل ماركس بخلاصة: أن "الاستبداد يحفر قبره الخاص"، على نسق مقولة ماركس، "الرأسمالية تحفر قبرها الخاص".
وبموسوعيته، أرخ الحموري إلى محطات من تاريخ الاستبداد، في الدول الأموية، العباسية، الحمدانية، الإخشيدية، الطولونية والأيوبية، مرورا بـالملك هنري الثامن في بريطانيا الذي غير دين الدولة من الكاثوليكي إلى البروتستانتي، من أجل الزواج من عشيقته، وآل البوربون والملك لويس السادس عشر في فرنسا وحتى ثورة العام 1789، وسقوط حكم آل الهوهنزوليرن في ألمانيا بعد 1000عام من الحكم، ولولا الإطالة لقدم تفصيلا عن 41 أسرة مالكة في أوروبا كانت تمارس السلطة المطلقة، رائيا أن دولة الخلافة الإسلامية لم تعرف على مدى حكمها الذي امتد لأكثر من 13 قرنا نظام الإقطاع الذي ساد في أوروبا، وإنما عرفت إقطاعا من نوع آخر هو الإقطاع السياسي الوراثي.
كان الحموري مرجعية دستورية وقانونية باهظة، وكلما قرأت له لاحقا تدرك حقا كم يستحق ذلك الانتباه الأولي، وذلك الشغف المستمر!.
ومؤلفاته العشرة التي حبّرها تستحق القراءة وإعادة التأمل، ولعل أبرزها كتاب "الحريات الأسيرة بين استبداد الحكم واستغلال الدين: الأصول وطريق الخلاص"، حيث قدم الحموري أطروحة جينالوجية خلص فيها، إلى أن الاستبداد في العالمين الغربي والعربي (عدا الولايات المتحدة الأميركية) استغل الدين إلى أقصى حد، ما جعل الشعوب تدفع ثمنا غاليا لنيل حقوقها وحرياتها، في حين رزحت الشعوب التي استكانت لتخدير السلطان المطلق وفقهائه لها باسم الدين ظلت تحت نير التسلط والقهر والاستبداد.
كما نشر كتابا بعنوان: "التنمية السياسية في ضوء نصوص دستورية غيبت وأخرى أفرغت من مضمونها: من أين نبدأ، وكيف نبدأ"، العام 2005، وآخر بعنوان:" دفاعا عن الديمقراطية وأحكام الدستور"، في العام ذاته، وفي العام 2007، نشر كتابا بعنوان: "قراءة في المشهد اللبناني بين الحقوق القانونية والمصالح السياسية والدولية"، قدم له المرحوم سليم الحص، وفي العام ذاته، قدم وترجم كتابا بعنوان: "اللوبي الصهيوني والسياسة الخارجية الأمريكية.. تقرير هارفارد"، لستيفن والت وجون ميزهايمر، وكتابا آخر بعنوان: "دور رجال القانون والقضاء في فرض قيمة الحرية في الدول العربية"، وبعد عامين نشر كتابا بعنوان: "الأمة: التاريخ والنظام السياسي والقانوني في الأردن"، وفي العام 2010، نشر آخرا بعنوان: "الحقوق والحريات بين أهواء السياسة وموجبات الدستور: حالة الأردن: دراسة مقارنة في الواقع والينبغيات"، كما نشر في العامين 2011 و2015 كتابين هما: "الإصلاحات الدستورية في الأردن التي تحتاج إلى إصلاح"، و"المتطلبات الدستورية والقانونية لإصلاح سياسي حقيقي: لماذا.. وكيف".
ومع كل كتاب وقراءة ومقالة وإصدار وندوة أو حوار، تجد أن الحموري يتجاوز الحموري، وكأنه الرجل الذي يسبق ظله.
ومع ذلك، فهو مفكر لا يمكن تجاوزه، ولا يمكن نسيانه، وإن لم يحظ، بعد، بما يليق بفكره من تكريم وقراءة وإعادة قراءة.
فعند تتبع خطوات الحموري وطروحاته، نجد الحموري أمامنا، وقد سبقنا إلى محطات جديدة، بل هو من يقوم باستقبالنا بترحاب عندها ويفتح لنا فتوحات عقلية لم نكن نراها من قبل، ليبقى متجددا متعددا في كل ما يقدم من رؤية مستجدة، وتأريخ للمستقبل.
أفكار الرجل كانت كالجمر؛ فإن التهبت حرقت، وإن بردت تفحمت بقابلية الحرق المستدامة، ذلك الفحم الذي يطهر العقل والروح من شوائبهما السامة.  
فالقارئ في رحاب الحموري رهين معضلتين، الأولى معضلة/ دهشة الطرح الجريئ والرؤية العميقة والتحليل الحارق، التي لم تقف على التخوم بل حفرت عميقا بالعقل، ما يستدعي الهروب منه أحيانا، والأخرى العودة القسرية إلى الحموري الذي يستعصي نسيانه أو تجاوزه، لنتمكن من التحديق في  الحاضر والمستقبل، عندئذ نجد أنفسنا نهرب إليه بعدما كنا نهرب منه.
دروب وعرة مر بها الحموري وخاض غمارها، منذ صرخته الأولى العام 1940 في قرية بيت راس، وانتهاء بإغماضته الأخيرة العام 2022، مرورا بإربد حيث المدرسة، ومن ثم انتسابه للقوات المسلحة الأردنية (الجيش العربي)، ليتخرج برتبة ملازم ثان، والبعثي المنتسب إلى حزب عفلق إبان المد القومي، وعضو تنظيم الضباط الأحرار، ورهين الاعتقال والإقامة الجبرية، والعائد لدراسة القانون، في مصر الناصرية، والمعيد في الجامعة الأردنية، وخريج كامبرج بإجازة فلسفة القانون التجاري، ومؤسس كلية الحقوق في الجامعة ذاتها، والوزير ذي الحقيبتين في عهدي زيد المرحوم زيد الرفاعي وطاهر المصري، ومن ثم استقالته من الحكومة التي نتوت التوجه لمؤتمر مدريد، والمحامي المستقل، ناهيك عن عضويات هنا وهناك، حيث كان عضوا مؤسسا للمنتدى العربي في عمان، وعضوا في الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي، وعضو اللجنة الملكية لتعزيز منظومة النزاهة في حكومتي الدكتور عبد الله النسور الأولى والثانية، وانضم إلى جمعية الصداقة الأردنية- البريطانية. 
وكان عضوا في المؤتمرات وورشات العمل في المنظمة العالمية للملكية الفكرية World Intellectual Property Organization (WIPO)، وعضوا في المجلس الاستشاري الدولي لجامعة هارتفورد University of Hartford في مدينة West Hartford في ولاية كونكتيكت Connecticut في الولايات المتحدة الأميركية، وعضوا في مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي، وعضوا في الأمانة العامة للمنظمةالعربية لمكافحة الفساد، واختتم مسيرته بالعودة للحياة الحزبية، رغم انتقاداته اللاذعة للتجربة.
رغم مرور 3 سنوات على رحيل الحموري، إلا أنه يبقى راهنا ومتجددا، ومتعددا، وقادرا على البوح، رغم صمته الأبدي، فالأفكار الحقيقية والرصينة لا تموت، بل لديها القدرة الكامنة على تجديد ذكرى أصحابها، ليظل حضورهم دائم الإشعاع عبر التاريخ. 
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق