يقال إن أحد أشكال الرزق يأتي على هيئة صديق ذي قلب محب ولسان صادق وصريح، لا يراوغ ولا يجامل، ويجعلك، رغماً عن أنفك، تعيد التفكير في منهج معاملاتك، وفي حسابات علاقاتك، بل وتعيد النظر في فهمك للحياة برمتها، متأثراً بقدرتهم على تعرية الحقائق.. فهم كالجاثوم الكاتم للذات المتعالية!
ففي ساعة صفاء مع صاحبة تلك المواصفات "الجريئة"، والحوار يأخذنا، يمنةً ويسرةً، حول شؤون الدنيا والدين، لنصل بأطراف الحديث عند خانة الأسئلة الفلسفية التي تدفع الإنسان دفعاً إلى "التفكير في التفكير" لعيش الحياة فوق مستوى الترهات، ولكن دون الوقوع في فخ "فلسفة الفلسفة" التي تُدخل العقل في ظلمات التجديف والهرطقة، والعياذ بالله.
أما السؤال محل النقاش، فقد كان بسيطاً ومن النوع الذي تحتمله الدردشات العابرة، كلماذا نكتب؟ وهل نحن نختار ما نكتب، أم أن المواضيع هي من تختارنا؟ وكيف اتفق أغلب الكتّاب، المشهور منهم والمغمور، بأنها -أي الكتابة- تجربة خاصة ومتفاوتة، ولا بد من خوضها وفهم دوافعها لاستخراج أفضل ما فيها.
فهناك مثلاً من يعتبر الكتابة ساحة للهرب والتنفس والتأمل، ومنهم من يعتبرها خلوة للتصالح مع ذاته، ومع واقعه، ومع ذلك الآخر المختلف الذي يريد أن يقارعه بالحجة ويهزمه بالقول الفصل، وهناك من يعتبرها كالبعث من بعد الممات، وهو شعور عظيم لا يعرفه إلا من اختبر فعل الكتابة، كالفنان الذي يصنع من أبسط المواد أجمل اللوحات وأغلاها ثمناً.
وأنا في غمرة هذه الحماسة الفكرية، قاطعتني الصديقة، بتعليقها الصادم: "عاد شنو فايدة الكتابة في هل الزمن؟".
فقلت لها باستهجان واستغراب: ماذا تقصدين؟!
فردت بنبرة من يستميح العذر على صلافة القول: أنا لم أقصد من تعليقي التقليل من أهمية الكتابة ولا الاستهانة بكتاباتك، ولكن ألا تتفقين معي بأن عالمنا مهووس و"معفوس"، لا يسمع ولا يرى؟
وألا تعتقدين أن تأثير المقالات الصحفية –تحديداً– أصبح ضعيفاً، فهي بالكاد تُقرأ .. وبالكاد يستطيع صاحب القلم أن يحدث فرقاً؟!
فجاءها ردي الفوري: إذا كان الحال هكذا، فلنقل للطبيب إذن، لماذا تداوي ما دامت النتيجة هي الموت! الكتابة يا عزيزتي، وكما يقول إدوارد سعيد، "هي المقاومة الأخيرة ضدّ الممارسات والمظالم غير الإنسانية التي تشوّه التاريخ الإنساني"، وقد استطاع بكتاباته ومن خلال عمله الأكاديمي في أعرق الجامعات الغربية، بأن يمارس دور الناطق بلسان شعبه ووطنه. ومن قلب أمريكا سَخّرَ فكره لخدمة قضيته الأم، واستخدم قلمه لوخز الضمير العالمي وتذكيره بعذابات الشتات، وبـحق العودة وبعار استمرار الاحتلال، وباستخفاف البشرية بكل تعهداتها القانونية والأخلاقية على مذابح التاريخ..
فقالت على استعجال: القضية الفلسطينية اليوم تمر بأحلك أوقاتها وأصعب ظروفها، فشعبها مطحون وخسائره لا تعد ولا تحصى، أما العالم فماضٍ في صراعاته وتجاذباته، والقضية منذ أن عرفها وعينا، لم تجن غير التأجيل، والتضحية تلو التضحية، وحتى "اليوم التالي" الذي انتظرناه طويلاً لم نعد نعرف أوله ولم يعد له تالي، فنتيجة الحرب "صفرية" وكارثية، وآخرها، للأسف الشديد، معاودة التلويح بورقة تهجير شعب بأكمله بحجة إعادة "إعمار الدار"!
ثم قالت بحرقة شديدة: كيف ستغير الكتابة من رداءة الأحوال؟
وكيف ستحمي الأبرياء من الظلم وسلب الحقوق؟
وكيف سنبرر للأحياء خسارة العمر وخسارة الأهل وتضحياتهم التي ذهبت هباء، ولم يبقَ لهم غير غصة القلب ووحشة الدمار ومهانة الجوع وذل النوم في العراء، قولي لي كيف! أم أكتفي بقول محمود درويش: "ستنتهي الحرب، ويتصافح القادة، وتبقى تلك العجوز، تنتظر ولدها الشهيد وتلك الفتاة، تنتظر زوجها الحبيب وأولئك الأطفال، ينتظرون والدهم البطل لا أعلم من باع الوطن! ولكنني رأيت من دفع الثمن!".
تسمرت في مكاني، ماذا أقول لها؟ معك حق.. فلتخجل الكلمات ولتصمت الأقلام أمام مهازل الأقدار!
أم أكابر بالقول: دعي الكلمات يا امرأة تقوم بدورها فذلك أضعف الإيمان .. ولا تظلميها فالعيب فينا وليس فيها!
ولكنني فضلت السكوت، فبعض الصمت -كما قال أحد الشعراء- خاتمة لقول ما له أثر..
* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة
0 تعليق