ترجمة: بدر بن خميس الظفري -
تحتاج بريطانيا إلى المهاجرين، فوفقًا لأرقام مكتب الإحصاء الوطني الصادرة هذا الأسبوع، فإن عدد السكان «الأصليين» في بريطانيا في ثلاثينيات القرن الحالي سوف يظل ثابتًا، وأعمار الناس ستكون كبيرة وقتئذ، ولن يرتفع النمو السكاني إلا بفضل المهاجرين، الذين من المتوقع أن يرتفع عددهم بنحو خمسة ملايين نسمة على مدى السنوات السبع المقبلة، والحمد لله على وجودهم.
ولكن مع عودة هذا الموضوع إلى ساحة النقاش، فقد طغت عليه استغلال كراهية الأجانب لتحقيق مكاسب سياسية، ومع ذلك، تغيرت مواقف البريطانيين تجاه الهجرة بشكل كبير على مدى السنوات الخمسين الماضية. ففي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، صوّت حوالي 80% إلى 90% من الناس لصالح وقف الهجرة، في ذلك الوقت، كان معدل الهجرة أقل من 250 ألف شخص سنويا، وحذرت شخصيات مثل (إينوك بأول) من «أنهار من الدماء» نتيجة الهجرة، ولكن في الواقع، كان عدد الأشخاص الذين يغادرون البلاد أكبر من عدد الوافدين إليها.
في عام 2023، قُدِّر عدد المهاجرين إلى بريطانيا بأكثر من 1.2 مليون مهاجر، لكن نسبة المعارضة للهجرة انخفضت إلى 40% إلى 50%، وقد ارتفعت هذه النسبة في الفترة التي سبقت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، عندما كانت العامل الرئيسي في التصويت لصالح الخروج من الاتحاد، ثم تراجعت المعارضة مع رحيل العمال القادمين من الاتحاد الأوروبي، لكنها ارتفعت مرة أخرى في العام الماضي بسبب التركيز الإعلامي المتزايد على المهاجرين الذين يصلون بالقوارب الصغيرة من خارج الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من ذلك، فإن أقل من نصف الذين شملهم الاستطلاع يعتقدون أنه يجب الحد من الهجرة.
الأرقام لا تكذب. ولكن ما يهم حقًا هو أن المناطق التي يستقر فيها أغلب المهاجرين، خاصة لندن والمناطق المحيطة بها، هي أكثر المناطق إنتاجية من الناحية الاقتصادية في بريطانيا وأقلها معارضة للهجرة. فلندن وحدها، أكثر من ثلث سكانها ولدوا في الخارج، ورغم أن الرأي العام يعبر عن إحباطه إزاء استخدام المهاجرين للخدمات الصحية الوطنية والرعاية الاجتماعية، فإنه يرحب بهم كثيرا، خاصة أصحاب المهن مثل الأطباء، فضلًا عن العاملين في مجال الرعاية الاجتماعية والخدمات الفندقية والزراعة.
إن العديد من الخدمات التي نحتاج إليها، للبناء والتنظيف والنقل وتناول الطعام في الخارج، يقدمها المهاجرون في الغالب. والتنوع سمة من سمات أغلب المدن الكبرى في العالم. وألاحظ أن الدول التي تتمتع بمستويات عالية من الهجرة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا هي أيضًا من بين أكثر الدول ازدهارًا وحرية.
وبغض النظر عن كل هذا، فإنه من المستحيل تقريبا على دولة ليبرالية أن تمنع المهاجرين اليائسين من عبور حدودها، فعندما ضيقت حكومة بوريس جونسون على العمال المؤقتين القادمين من الاتحاد الأوروبي في ظل خروج بريطانيا الصعب، حل العمال الدائمون من خارج الاتحاد الأوروبي محلهم بأعداد أكبر، وقد أدت القيود الأخيرة المفروضة على الطلبة الأجانب وأفراد أسرهم إلى تحويل التأشيرات نحو مهن معينة، ولكن من الصعب أن نرى أن مثل هذا التحويل يساعد القطاعات الحكومية التي تعاني الآن من نقص مزمن في الموظفين.
وبعبارة أخرى، قد تحتاج الهجرة إلى بريطانيا إلى تنظيم أكثر صرامة، لكنها لن تتوقف، ولا ينبغي لها أن تتوقف، فالتنقل السكاني العالمي يشبه أزمة المناخ. فمن الممكن التخفيف من حدتها ولكن من الصعب عكس مسارها، وإذا كان زعيمان متعاقبان لحزب المحافظين البريطاني كانوا من أصول مهاجرة، فمن الصعب أن نزعم أن بريطانيا غير قادرة على التكيف مع الهجرة.
إن ما يهم الآن هو كيفية التعامل مع الاستغلال السلبي المستمر لموضوع الهجرة على السياسة الداخلية، فقد أثبتت هذه القضية أنها بمثابة هدية للمتطرفين في كل الدول «المستقبلة» في الغرب، من الدول الاسكندنافية وألمانيا إلى الولايات المتحدة. والهجرة باعتبارها رمزًا للعرق هي هدية لليمين المتطرف في أمريكا، تمامًا كما هي الحال بالنسبة للآثار الجانبية للهجرة، أو سياسات الهوية، بالنسبة لليسار.
وتشير الأبحاث التي أجراها مركز أبحاث الهجرة في أكسفورد إلى أن الجمهور البريطاني مستعد للترحيب بالوافدين الجدد إلى اقتصاده وحتى مجتمعاته. ولكن هناك شرطًا لهذا الترحيب! فالدعاية المتواصلة التي تحظى بها «جرائم المهاجرين»، التي لا تقل في الواقع عن «الجرائم المحلية»، تعكس شعورًا بأن المضيفين يتوقعون معايير أعلى من «الضيوف». ويبدو أن موجات الجريمة المبلغ عنها، كما حدث مؤخرًا مع عصابات المخدرات الألبانية، ينظر إليها أنها نتيجة لموجات الهجرة وليست ثقافة منتشرة في المجتمع البريطاني.
إن العديد من البلدان لديها الآن قوانين ولوائح تعمل على الإدماج المشروط والمواطنة الصالحة. ولابد من بذل الجهود للحد من الصدام الثقافي بين البريطانيين وبعض الجماعات المهاجرة، مثل القضايا المتعلقة بالجنسين. ولابد من مواجهة هذا الصدام بطريقة أخرى غير اختبار المواطنة السخيف الذي تفرضه وزارة الداخلية البريطانية بشأن «البيئة المعادية»، والذي يتضمن أسئلة مثل: «متى يكون يوم القديس ديفيد؟» و«أي المجلسين قاتـلا في حرب الورود؟».
لن يعترض أحد على ترحيل المجرمين المهاجرين أو فرض ما يعرف بـ«ميثاق المهاجرين». ومن الطبيعي أن نتوقع من أولئك الذين يرغبون في الاستقرار بشكل دائم في بلد جديد أن يتعرفوا على المهرجانات والتقاليد الثقافية والأعراف الاجتماعية المتعلقة بذلك البلد. ومن الأهمية بمكان الحفاظ على تماسك المجتمع. ومن الممكن اعتبار مثل هذا الميثاق جزءًا طبيعيًا من عملية الهجرة، وربما يمتد ليشمل حتى أصحاب المنازل المتعددة الذين ينتقلون إلى القرى النائية.
إن مجرد إدانة الهجرة إلى بريطانيا لم يعد له معنى؛ فالأمر لم يعد الآن إلا سياسة عاطفية خفية. ولا نستطيع أن نمنع الأجانب من الرغبة في القدوم إلى بريطانيا، ولكننا نستطيع تنظيم الأمر وتحويله إلى مصلحتنا، ونحن قادرون على التعامل مع الأمر.
سيمون جنكينز كاتب عمود في صحيفة الجارديان.
0 تعليق