أوروبا تحتاج إلى جرعة من الوطنية

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تبدو الديمقراطيات الأوروبية، وهي محاصرة بين الأوليجارشية (حكم الأقليّة) الأمريكية من جهة، والأنظمة الاستبدادية من جهة أخرى، وكأنها أثرٌ من حقبة ماضية. إن الحماس والتوافق المطلق اللذين شهدناهما أثناء تنصيب دونالد ترامب في الشهر الماضي قد يشيران إما إلى فجر «عصر ذهبي» جديد للولايات المتحدة أو إلى فقاعة مفرطة الثقة على وشك الانهيار. قد تنجح الصين في إعادة تشكيل العالم على صورتها، أو قد تقع فريسةً لانحدار ديموغرافي وركود اقتصادي. أوروبا ليست وحدها في هذا المنعطف التاريخي، لكنها الوحيدة الغارقة في التشاؤم واليأس والشك في الذات.

في عام 1492، بينما كان كريستوفر كولومبوس يحطّ رحاله في القارة الأمريكية، وكانت إسبانيا تدخل «عصرها الذهبي»، كانت الجيوش الإسبانية تستعد لغزو أجزاء كبيرة من إيطاليا. في ذلك الوقت، كانت المدن الأوروبية الأكثر ازدهارًا مثل فلورنسا وميلانو والبندقية تزخر بالثروة ويكسوها الجمال وتنعم بالتحضر وتنتشر فيها الصناعة والتجارة. لكنها كانت أيضًا مفتونة بهوياتها الخاصة لدرجة أنها رفضت التوحد في كيانٍ سياسي واحد، ما أدى في النهاية إلى تقسيم شبه الجزيرة الإيطالية، في حين تحرك العالم نحو الأمم بدلاً من الدول المدن المستقلة.

اليوم، هناك أوجه تشابه واضحة مع تفكك أوروبا المعاصر. نحن نعيش في عالم تهيمن عليه «دول الحضارة»، التي تنظمها التقاليد الثقافية بدلًا من السياسة، لتحل محل الدول القومية. وليس من المجدي الاكتفاء بالأمل في أن يدفع التوسع العسكري الروسي أو الإغراق الصناعي الصيني أو التهديدات الجمركية الأمريكية الدول الأوروبية متوسطة الحجم إلى استعادة طموحها. فالخوف وحده عاملٌ يؤدي إلى الشلل.

يتحدث قادة الاتحاد الأوروبي عن «ردود قوية» على تهديدات ترامب الجمركية الأخيرة، لكنهم في الواقع لم يتجاوزوا حالة جلد الذات والشعور بالضحية والانبهار بالقوة الأمريكية والصينية. ما نحتاجه بدلاً من ذلك هو استعادة الجرأة والتطلع الشديد للمستقبل، والتخلي عن بعض من لباقة دبلوماسيتنا في عالم لا يعرف اللباقة.

صحيح أنه ينبغي أن نبقى مخلصين للمبادئ الأخلاقية للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، ونستمر في الإيمان بعالمٍ يحكمه القانون والمساواة. لكن في الوقت نفسه، وللحفاظ على هذا الأمل، علينا أن نعترف بإنجازاتنا المشتركة ونحتفي بها وندافع عنها.

بينما تستعد الحكومة الأمريكية لاستعمار المريخ، تتخلى عن مسؤوليتها في ضمان استدامة كوكبنا الذي يزداد احترارًا. بينما ينفخ ترامب في فقاعة العملات الرقمية، يقاطع الاتفاقيات العالمية بشأن الحد الأدنى للضرائب على الشركات. وبينما تتسارع استثمارات الذكاء الاصطناعي، تعاني شوارع الولايات المتحدة من الإدمان والفقر المستشري.

في جميع هذه الجوانب، تتفوق أوروبا. الاتحاد الأوروبي رائد عالمي في الطاقة المتجددة والكفاءة الصناعية والسياسات المناخية. لقد طور نموذجًا فريدًا للاقتصاد الاجتماعي يحدّ من تجاوزات الرأسمالية المتوحشة. صحيح أن ارتفاع مستويات التضامن الداخلي لا تضمن منزلًا لكل فرد، لكنها توفر على الأقل شبكة أمان تحمي الناس من السقوط في الهاوية.

ومع ذلك، هناك العديد من التحديات. فالإنتاجية الاقتصادية في تراجع، حيث تتخلف أوروبا عن الصين والولايات المتحدة في السباق التكنولوجي. القارة غير قادرة على الدفاع عن نفسها عسكريًا وتعتمد بشكل كبير على استيراد الطاقة. لكن، كما كان الحال مع دول المدن الإيطالية في الماضي، فإن جميع هذه المشكلات التي تبدو مستعصية يمكن حلها بخطوة واحدة، وهي المزيد من الوحدة.

لو تمكن الاتحاد الأوروبي من استغلال أسواقه المالية الضخمة والمجزأة، لامتلك الموارد اللازمة للاستثمار في إعادة إطلاق اقتصاده وتقنياته، وتقليل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي المملوكة للأجانب مثل تيك توك على ديمقراطيته. لو نسقت الحكومات الأوروبية إنفاقها الدفاعي، لما كان هناك ما يدعو للقلق. لقد أنفقت دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة 326 مليار يورو في عام 2024، مقارنة بـ 145 مليار يورو لروسيا في عام 2025. ولو اتحدت أوروبا وتحدثت بصوتٍ واحد، لتمكنت من صياغة اتفاقيات تجارية تجعل العالم مكانًا أفضل، كما أظهرت اتفاقياتها الأخيرة مع تكتل ميركوسور في أمريكا الجنوبية والمكسيك.

من خلال العمل الجماعي، ستتمكن الديمقراطيات الأوروبية من التفاوض مع الصين بشأن تنسيق العمل المناخي بدلاً من مجرد الخوف من السيارات الكهربائية الصينية. نحن نعلم أن نقص التمويل يمثل عائقًا هائلًا يمنع الدول النامية من تبني التحول الأخضر. فهل يمكن لخطة تمويل مشتركة بين أوروبا والصين أن تساعد في نشر توربينات الرياح الأوروبية والبطاريات الصينية في فيتنام وإندونيسيا وكينيا وبيرو، مما يسهم في خفض الانبعاثات وتعزيز التعاون الصناعي بين الطرفين؟

كما ستتمكن أوروبا أيضًا، في ظل غياب الولايات المتحدة، من الاستثمار طويل الأمد في الديمقراطية وسيادة القانون والتعددية، مما يدحض الاتهامات الغربية المعتادة بالنفاق عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن القيم الديمقراطية. وعلى الرغم من تناقض هذا الطرح، فإن جعل أوروبا قوة عالمية هو السبيل الأكثر أمانًا لبناء عالمٍ يتجاوز صراعات القوى العظمى.

هذه الطموحات ليست مسألة انتماء لليمين أو اليسار، أو تأييد الليبرالية أو الشعبوية، وليست حتى دعوة للتخلي عن الهوية الوطنية لصالح بيروقراطية مركزية في بروكسل. بل إنها ببساطة مسألة تقرير المصير، والانتقال من كوننا مجرد عنصر سلبي في التاريخ إلى فاعل رئيسي فيه.

خذ على سبيل المثال محاولة جورجيا ميلوني في كسب ود ترامب. قد تبدو هذه مناورة ذكية، لكنها في جوهرها تشبه دهاء الخادم الذي يسعى لإرضاء الملك كي يتجنب غضبه ويحصل على فتات المائدة. إن الوطنية، كما تنتمي إليها ميلوني، يجب أن تكون النقيض التام للخضوع.

في النهاية، ما تحتاجه أوروبا هو شكلٌ جديد من الوطنية المدنية أو الديمقراطية، يمنع تحول الأوروبيين إلى مجرد تابع للقوى العالمية التي تزورها فقط للإعجاب بجمالها التاريخي. يجب أن نحقق ما طمح إليه قادة أوروبا العظماء عبر التاريخ لكنهم لم يتمكنوا من تحقيقه، وهو إنشاء مجتمعات تعددية تتحد ضمن «أمة أوروبية» مشتركة.

هذه الأمة الأوروبية لا ينبغي أن تكون دولة عظمى مركزية، بل كيانًا قائمًا على المبدأ الذي فشلت دول المدن الإيطالية في إدراكه، وهو الاتحاد حول ما هو ضروري للحفاظ على نمط حياتنا. وسواء كان ذلك في مجال أمن الطاقة، أو التكنولوجيا، أو السياسة الخارجية، وسواء تحقق عبر تعميق الاتحاد الأوروبي أو عبر صيغة جديدة، فإن شيئًا لن يتغير حتى نغرس روحًا وطنية أوروبية مشتركة. لقد أنشأنا عملة أوروبية موحدة، والآن علينا أن ننشئ شعبًا أوروبيًا موحدا.

قد يبدو هذا الحلم غير واقعي. لكنه ليس أكثر جنونًا من حلم استعمار المريخ. إنّ بناء أمة جديدة تُدعى «أوروبا» قد يكون مغامرتنا المريخية الخاصة، ورهاننا الأفضل لمواجهة اليأس والشك والخوف والتشاؤم، وحكم الأقليّة والاستبداد.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق