عندما وصلتُ لما ظننت أنه الخطأ الثالث في الصفحة الأولى وحدها، توقفت عن قراءة العمل المترجم ورحتُ أفتّش عن الأصل. وضعتهما جنبًا إلى جنب لتتكشف لي أخطاء متكررة على طول النص. فكرتُ بأن من واجبي ربما أن ألفت الانتباه لما بدا إهمالًا من المترجم والمحرر والناشر. أعني أنه من الطبيعي ألا يخلو عمل من الهفوات، التي يُمكن تجاوزها، بل وأحيانًا كثيرة لا ننتبه لها، لكن ليس بهذه الفداحة، لا من حيث الكم ولا النوع. فكرت بعدها بأي خير قد يأتي فعل التشهير هذا. ثمة مترجمون كانت تجاربهم الأولى سيئة، ثم أصبحوا خير من يترجم عن اللغات التي يترجمون عنها. ثمة من -ورغم سوء الترجمة- قدموا للعربية أسماء ما كانت ستُعرف لولاهم.
ثمة سيرة تُفتح كل مرة عند الحديث عن الترجمة، دون التوصل لخلاصة. أعني المفاضلة بين نحت كلمات جديدة ذات جذر عربي، أو بالمثل استعادة كلمة مهجورة مقابل اقتراضها. عبدالله المعمري مثلًا أحد المترجمين العمانيين (وقد يكون من خير من يترجمون ويكتبون عن العلم) الذين ينتصرون للدقة مقابل السلاسة (السلاسة بمعنى أن تكون الكلمات مألوفة، بحيث لا تحدث تلك العثرة وأنت تقرأ)، والنحت مقابل القبس. يختار مثلًا «تنادد» من «ند» كترجمة لكلمة «homology» والتي تعني التجانس والتماثل، بالرغم من أن تنادد غير شائعة.
في المقابل أجدني ميالة للاقتراض وتحديدًا القبس (أتمنى أن يكون هذا هو الاسم الدقيق الذي يصف ما أعني) فأستخدم كلمة «تروما» بدل «صدمة» مثلًا لأنها تُحيل مباشرة للمعنى كما يُستخدم على نطاق واسع اليوم. مثل هذه الاختيارات قد تعطي الانطباع بفقر القاموس العربي، لكنها أيضًا تنتصر، ليس للمألوف فقط، بل لدقة الاصطلاح.
عندما وقعت على أعمال إبراهيم أصلان في بداية عشرينياتي، نفرت منها لأنها بدت قريبة من اللغة المحكية. ورغم أنني -كذوق شخصي- لم أستسغ -وما زلت لا أستسيغ- الحيل البلاغية، ويمكن أن أرمي عملًا من يدي لأنه يستخدم كلمة «مثل» أكثر من اللازم. كتابة «أصلان» التي نفرت منها في السابق، صارت نوع الكتابة الذي أفضّل. الكتابة «الطِعمة» طعامة لا تجدها إلا في الكتابة المصرية.
من يجعلون الكتابة تبدو عملًا سهلًا، وكأنهم يفعلونها «من طرف إيدهم» وكأنهم لم يقضوا لحظة في إعادة الكتابة، ولم يفتحوا قاموسًا في حياتهم، من يُفاجأون بالجمل تخرج منهم هؤلاء هم قبيلتي. أما أسلوب الكتابة الذي يبدو كولادة عسيرة يُثقل روحي، ولا أقدر على التعاطي معه حتى وإن بدرت عنه جوهرة أدبية لا يبزها نظير (يا إلهي من أي قاموس خرجت «يبزها نظير» هذه.. ما علينا).
أقول إن الكتابة المصرية تحاول طوال الوقت أن تتحدى التزمت اللغوي. البعض يحاول ردم الهوة بين الفصحى والمحكية. آخرون يشرعون بجرأة في الكتابة باللهجة المصرية. ليس في أي موضوع، في الفلسفة (أقصد كتاب شهاب الخشاب الجميل «الفهّامة»). هذا طبعًا يُحيلنا للجدل الذي لا ينتهي حول الويكيبيديا المصرية، والتي لا أملك إلا أن أرى فيها جهدا مشروعا لـدمقرطة (من ديمقراطية) المعرفة.
الخلاصة، أن هذا الجدل لن ينتهي، وعلينا ربما أن نُسلّم بأنه لن ينتهي. متى ما كان المترجم أو الكاتب قادرا على أن يُبرر اختياراته، بل ربما ليس علينا أن نطالب بالتبرير حتى، ونقبل بتعدد الأساليب. ونقبل بالتموضع حسب الذوق الشخصي للمترجم وأسلوب الكاتب في النص الذي يُترجم عنه. في النهاية ما بيدنا إلا أن نجرب. فمعيار أن تبقى كلمة ما أو أن تختفي في النهاية هو مدى تبنّيها، والبقاء للأكثر شيوعًا.
0 تعليق