نالت الممارسات الشعبية العُمانية الكثير من الاهتمام في مجالات البحث والدراسات العلمية، التي تنوعت ما بين الوصفية والتحليلية، وتحليل المضمون، وغيرها من المناهج والأساليب المستخدمة. غير أن أغلب هذه الدراسات كانت نوعًا ما تعطي طابعًا تقليديًا في وصف ما هو تقليدي أصلًا، من حيث فكرتها على الأقل، إذ كانت تشير إليها (الممارسات الشعبية) على أنها نوع من الخرافات والخزعبلات، التي اتجه إليها الناس قديمًا؛ لإضفاء نوع من المعنى الملموس عليها، سواء كانت في مجال الطب أم في بعض الطقوس السحرية، التي شكّلت الصدفة في تحقيق غرضها نسبة كبيرة. والبعض الآخر من الدراسات قام بنوع من المقارنة لا غير، بين مختلف الممارسات الشعبية في مختلف المجتمعات، لإثبات فقط أن هذه الممارسات، وإن اختلفت في شكلها وغرضها، فهي تُعد ظاهرة منتشرة بصورة كبيرة في كل المجتمعات، وليست فقط في مجتمع محدد أو متخصص في ذلك.
ما يُؤسف عليه، ونحن في القرن الحادي والعشرين، هو أن الكثير من المتعلمين ينظرون لمثل هذه الممارسات بنوع من الاستهتار وعدم المبالاة، لأسباب تخلو من العلم والمنطق. فبعض هذه الأسباب هو اعتبار أن هذه الممارسات -كما أسلفنا- مجرد خرافات منتشرة بين المجتمعات لا غير، بالإضافة إلى وجود المتعلم واعتلائه برجًا عاليًا، قد يمنعه من الاهتمام بمثل هذه التفاصيل التي يراها غير مهمة للبحث والدراسة، بقدر أهمية الموضوعات الموجودة في محيطه، التي من الأفضل في نظره أن يستثمر خبرته ومعرفته فيها. فمن خلال قراءتي، وعلى حسب علمي المتواضع، فمن ضمن من أعطوا هذا الموضوع حقه هو الدكتور علي الوردي في كتابه «خوارق اللاشعور»، حين أشار إلى أن «هؤلاء الناس قد اعتادوا على النظر في الأمور من خلال إطار تقليدي ولا يخرجون في بحوثهم عنه... وأنهم قد انغمسوا فيما يسمونه الأدب للأدب» (الوردي، 1951، صفحة 64). إضافةً إلى ذلك، أشار الدكتور علي الوردي إلى هذه المشكلة بتعبير آخر، حين قال: إنهم كذلك «قد تعودوا على أن ينظروا في الأمور على أساس المنطق القديم، أو ما يسمى بالمنطق ذي الحدين، أي إما أن تكون الممارسة على حق أو على باطل، ولا يجوز التوسط بين الشيئين» (الوردي، 1951، صفحة 30).
إلا أنني لا أنوي الخوض في ديالكتيك الخطأ والصواب، وما يجب فعله وما لا يجب، فقط أحاول أن أعطي نوعًا من الاهتمام لممارسات لا تزال موجودة ويلجأ إليها الكثيرون، في ظل كل هذه الحداثة والتقدم، وسأحاول، لن أقول دحضًا، بل أن أبدي وجهة نظر مغايرة عمّا قيل في هذه الممارسات وفي أثرها، والتي تباينت بين أنها صدفة في الأثر الإيجابي، أو أنها خرافات لا طائل منها، فقط أن الناس قد لجأوا إليها لإضفاء نوع من المعنى على أفكارهم المجردة آنذاك، وغيرها الكثير من الأقاويل التي تعطي إطارًا تقليديًا لهذه الممارسات الشعبية. لا أنفي تقليدية الممارسات، ولا أنفي الصدف فيها، وكذلك لا أتجاهل صحة أن الناس، من خلال حواسهم ودوافعهم، وبمساعدة الطبيعة المحيطة، قد أضافوا معنىً لتلك الحواس والأفكار، ولكن هذا يمكن قوله في المرحلة ذاتها، أي يمكن أن نقول: إنها صدفة في مرحلة الصدفة، ويمكن أن نقول: إنهم يريدون إضفاء معنى لأفكارهم وحواسهم في مرحلة إضفاء المعنى الملموس، وهكذا دواليك. إضافةً إلى ذلك، لا يمكننا أن نبقى داخل قوقعة التقليد والصُدف، بل علينا أن نتعمق فيها بشكل أكثر علمية ومنطقية، وهنا يأتي دور الباحث في النظر إلى ما وراء هذه الممارسات الشعبية خارج إطار التقليد.
نعلم أن هذه الممارسات الشعبية كانت موجودة منذ القدم، فأرى أن أساس تكوينها قد مر بأربع مراحل طورتها وقوّت أسسها، والتي بدورها قد ضمنت استمرارية هذه الممارسات إلى الوقت الحاضر، وقد ذكر بعضها في الفقرة السابقة. المرحلة الأولى: هي الفكرة المجردة، ثم تليها مرحلة إضفاء المعنى الملموس للفكرة، والمرحلة الثالثة هي الصدفة، وآخر مرحلة هي مرحلة العقل الباطن، وهي المرحلة الأهم. سنتطرق إلى كل مرحلة، ونضرب عليها بعض الأمثلة لبعض الممارسات الشعبية من الواقع العُماني حتى تتضح الصورة أكثر؛ لذلك اخترت الممارسات الشعبية الطبية، أو الطب الشعبي، بداعي أن أثر الصدفة قد يكون فيه بنسبة كبيرة، أو كما يقول المثل الشعبي: «خابت صابت»، حتى أثبت محدودية هذا التفكير. أي ليس كما يقول البعض في وقتنا الراهن عندما تحدثه عن فعالية الطب الشعبي، فيقول إنها الصدفة، بل الأمر يتعدى ذلك بكثير.
واختصصت أكثر في علاقة كل من أثر متغيرَي الجنس والعمر في فعالية هذه الممارسات الطبية، كالأنثى والرجل، الطفل أم البِكر (وهي الأخت الكبرى) أو التوأم؛ بداعي أنه لم يتم التطرق إليها بشكل كبير في المجتمع العُماني.
0 تعليق