(1)
وما زلنا مع سيرة الكاتب والمفكر وأستاذ الأدب الراحل عبد الوهاب المسيري (1938-2008) الذي رحل عن عالمنا قبل ما يقرب من سبعة عشر عاما، ورغم الرحيل والغياب فإنه ما زال حاضرا بقوة، وتطبع كتبه ويعاد طباعتها ويقبل عليها القراء والمهتمون من المتخصصين وغير المتخصصين على السواء، وما زالت كتبه ودراساته، على تفاوت أحجامها وأشكالها وطبعاتها، تملأ مساحة واسعة جدا مما كتب باللغة العربية في حقل الدراسات الإسرائيلية واليهودية والصهيونية، بكتاباته الغزيرة المهمة وموسوعته الكبيرة الضخمة التي أنجزها خلال ما يزيد على ربع القرن وضمنها خلاصة قراءاته وأبحاثه المنهجية المنضبطة للشخصية اليهودية وتاريخها وثقافتها وتصوراتها.. إلخ.
وقد استوقفتني الطبعة الجديدة من سيرته الذاتية الضخمة التي صدرت مرارًا، عن دار الشروق المصرية، وجعلتني أعيد مطالعتها على ضخامتها، وقد قراتها أكثر من مرة منذ اقتنيتها للمرة الأولى قبل ربع القرن! ما زالت هذه السيرة قادرة على الإغواء بالقراءة وإمضاء الساعات بصحبتها دون ملل أو كلل، وقادرة أيضًا على استجلاء الدروس والعبر والأفكار شديدة الذكاء واللماحية التي ينثرها صاحبها بين السطور وفي ثنايا الصفحات؛ تنتظر القارئ الحصيف والمتأمل الذي يتوقف بأناة وصبر عند الكلمات والعبارات والفقرات ويطيل النظر والتدبر، حينها تفصح تلك السيرة المكتوبة بوعي رهيف وشديد الحساسية، ولغة غاية في التماسك والسلاسة والتدفق، بددت كثيرا من الأوهام التي قد يوحي بها حجمها، تفصح عن كنوزها ومستوياتها المتعددة من الأفكار والخواطر والعبر والنظرات والنقدات التي نحن في أحوج ما نكون إليها الآن في ظرفنا التاريخي والإنساني والحضاري الراهن!
(2)
ولعل بعضا من جاذبية هذه السيرة والإقبال عليها أن كاتبها كان واعيًا بأن أي مؤلف لا يكتب "للناس جميعًا" وإنما لمجموعة محددة من البشر. وكل كاتب أو مؤلف وبخاصة كاتب السيرة الذاتية، في تصور المسيري- يحتاج إلى جماعةٍ من القراء تتوافر فيهم عدة شروط:
أن يكونوا مهتمين بالقضية التي يتناولها، وأن يكونوا على مستوى فكري يمكنهم من الحكم على أعماله فلا يكيلوا المدح دون حساب أو مقياس، وألا يكونوا من الحاسدين الحاقدين. مثل هؤلاء يمكنهم توجيه النقد للمؤلف داخل إطار من الصداقة والتقبل المبدئي، ويعطيه قدرًا من الشرعية، فهذا يشد من أزره، والحوار الدافئ الذكي يولِّد في نفسه الثقة" (رحلتي الفكرية ـ سيرة عبد الوهاب المسيري الذاتية، ط دار الشروق 2016)
هكذا تمثل كل فقرة وكل عبارة في هذه السيرة فكرة بذاتها، مفتاحا للقراء، موضوعا للتأمل والمراجعة والإلهام بل والنقد! بهذا المعنى قرأت هذه السيرة وأعدت قراءتها وما زلت مستمتعا بمعاودة مطالعتها وما زالت قادرة على المزيد من القراءات والتفسيرات بل والإيحاء أيضا بكتابة على الكتابة!
من الممكن -إذن- أن تتوقف عند كل فقرة أو عبارة متمليًا ومتأملًا، تقارن بين الحمولة الذاتية لصاحبها وتأمله الفكري والموضوعي لها! لعل هذا فيما أتصور مفتاح قراءة هذه السيرة الضخمة كلها!
سأحاول أن أدلل على مصداقية هذا "المدخل" بأمثلة لعلها توضح ما قصدته:
"رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار" سيرة ذاتية صريحة وواضحة على مستوى الشكل والمضمون؛ يعرض فيها صاحبها لسيرته الذاتية عبر المكان والزمان والأفكار، يروي وقائعها أولًا كما تستجليها الذاكرة، ثم يقف محللا وقارئا ومفسرا لهذه الوقائع؛ وكأن وعي كاتب السيرة قد انقسم على ذاته نصفين: ذات أصبحت موضوعا للتأمل والإدراك والفحص والمراجعة والنقد! وذات تمارس هذا الفعل الفاحص على نفسها!
هكذا يحكي المسيري قصته مع الإسلام والشيوعية منذ شبابه المبكر، وتنقله من دمنهور التي نشأ فيها إلى الإسكندرية، ومنها إلى نيويورك، وأخيرًا القاهرة التي استقر بها ومات فيها. يقول المسيري "إن الإيمان لم يولد داخلي إلا من خلال رحلة طويلة وعميقة، إنه إيمان يستند إلى رحلة عقلية طويلة، ولذا فإنه إيمان عقلي لم تدخل فيه عناصر روحية، فهو يستند إلى عجز المقولات المادية عن تفسير الإنسان، وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر تركيبية".
(3)
هذه الفكرة الفلسفية المجردة يردها إلى جذورها في وقائع السيرة قبل الوعي بها كفكرة أو قبل صياغتها في صورتها المجردة! كيف؟
يروي المسيري ذات مرة أن أستاذ اللغة العربية (الأستاذ عوف) طلب منه وهو في السنة الثانية من المرحلة الثانوية أن يكتب موضوع إنشاء (تعبير) عن "حديقة منزلكم". ويعلق المسيري شارحا وموضحا ماهية هذا الإنشاء "لم تكن مادة نتعلم فيها كيف نرتب أفكارنا ونحولها إلى كلمات مكتوبة، وبنية منطقية متماسكة، وإنما كانت قوالب لفظية جاهزة نحفظها عن ظهر قلب ثم نرصها رصًا حين تحين المناسبة. من هذه القوالب التي ما زلت أذكرها مجموعة من الكلمات تعبر عن "موقفي" من الطبيعة: فهي تخلب اللب، وتشرح الصدر، وتملأ القلب روعة وجلالًا. وبالطبع كانت هناك الآيات القرآنية والأبيات الشعرية والأمثلة التي نرصع بها ما نكتب أو ما ننشئ".
لكنه سيتوقف عن كل هذا فجأة، يقف محتجا ومعارضا يقول "ضقت ذرعًا بكل هذا، فكتبت موضوع إنشاء أقول فيه ما أحس به. بدأ الموضوع بتأكيد أن منازل الفقراء ليس لها حديقة، وأن أطفالهم لا يعرفون معنى الحدائق، ويعيشون بين أكوام القمامة، وهاجمت الظلم الاجتماعي بشكل عام".
فكيف كانت نتيجة هذا الفعل الاحتجاجي كما عرضه صاحب السيرة ورواه بتفاصيله؟
ببساطة لقد أعطاه أستاذ اللغة العربية "صفرا" عن هذا الموضوع، وأبلغ أهل الدكتور المسيري عن كتاباته "الشيوعية". وبطبيعة الحال لم تكن لها أي علاقة بالشيوعية (التي لم أكن أعرف عنها شيئًا آنذاك) أو أي مذهب سياسي، وإنما كان تعبيرًا عن رفض فتى يافع للظلم الواقع على أعضاء المجتمع
(رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر - سيرة غير ذاتية غير موضوعية، لـ عبد الوهاب المسيري، الطبعة السادسة 2015 لـ دار الشروق)
(4)
لو توقفت كثيرا جدا أمام هذا الواقعة لاكتشفت أن المسيري قد منحنا مفتاحا دقيقا وصائبا لقراءة وتحليل وقائع وتفاصيل شديدة الخصوصية في حياة كل منا يمكنه من خلال التوقف عندها، برصدها أولا ولملمة خيوطها وتنظيما حكائيا ثانيا، أن يرد كثيرا من السلوكيات والآراء والمواقف إليها دون كثير عناء!
حكاية المسيري مع أستاذ اللغة العربية وتأثيره الجذري في مسار أحداث صاحب السيرة، تتكرر كثيرًا جدا، سلبًا وإيجابًا في كثيرٍ من نصوص الذكريات وكتب المذكرات وكتّاب السيرة، من أيام طه حسين (1927) وحتى "كنت صبيا في السبعينيات" لمحمود عبد الشكور (2016)، و"من أوراق الثمانينيات" لكاتب هذه السطور.
في موضع آخر تستوقفني هذه الفقرة التي أدرت عليها كتابة مقال بحثي طويل جدا حول ما آلت إليه أوضاع الدراسة والبحث داخل جامعاتنا في دائر الإنسانيات بالأخص. يقول المسيري:
"إن كلمة «أكاديمي» فقدت معناها، وأصبحت تشير إلى أي شخص عديم الخيال، يُلحق ببحثه قائمة طويلة بالمراجع، ويشرح أطروحته بطريقة مملة، ولا يُبدي أي رأي، ويحدث أصواتًا معرفية. وفي الدراسة التي كتبتها عن جمال حمدان نوهت بهذا العبقري الفلتة، فهو من القليلين الذين أفلتوا من قبضة (أو مستنقع) الموضوعية المتلقية، فبينت أن كتاباته ليست دراسات «أكاديمية» بالمعنى السلبي للكلمة، والتي عرَّفتها بأنها:
«الدراسة التي يكتبها أحد المتخصصين الأكاديميين دونما سبب واضح، ولا تتسم بأي شيء سوى أنها «صالحة للنشر» لأن صاحبها اتبع مجموعة من الأعراف والآليات البحثية (من توثيق ومراجع وعنعنات علمية موضوعية) تم الاتفاق عليها بين مجموعة من المتخصصين والعلماء".
(وما زال للحديث بقية)
0 تعليق