غزة- «عُمان»- بهاء طباسي:
في صباح يومٍ شتوي بارد، كانت عائلة الطفلة أسيل شكشك تقف على أعتاب معبر رفح، تحمل في قلوبها آمالًا معلقة بين الحياة والموت. سبع سنوات مرت من عمرها، لكن قلبها الصغير لم يعرف يومًا الراحة. عيبٌ خلقي أرهقها وأرّق والديها، جعلها رهينةً للآلام التي لا يحدُّها سوى الأمل بالخروج للعلاج.
أمسكت والدتها بيدها المرتجفة، بينما تحاول جاهدةً إخفاء دموعها. أطلقت الأم زغرودة بمجرد أن أكد لها الموظفون عند معبر رفح أن اسم ابنتها ضمن المسموح لهم بالسفر العلاجي. لكن الفرحة بموافقة خروج أسيل للعلاج كانت ناقصة، إذ لم يسمح الاحتلال بخروج إخوتها الصغار معها، لتظل طفلتها الأخرى ذات الثلاث سنوات بلا رعاية أمها.
صرخة طفلة على أعتاب المعبر
محمود شكشك، والد أسيل، يشعر بقلقٍ يمزّق فؤاده، متسائلًا: «كيف سيتدبر أمر أطفاله الصغار وحده؟ كيف لطفلة بعمر الزهور أن تواجه الألم بعيدًا عن حضن أسرتها؟». إلا أنه النهاية شكر الله على منحه أمل شفاء ابنته.
وبين هلال حديثه لـ«عُمان»: «ننتظر هذه اللحظة منذ أكثر من 15 شهرًا. سنفترق عن أحبتنا لكن الحمد لله».
تُثقل المماطلة الإسرائيلية قلوب المنتظرين أمام بوابات المعبر، فالرفض جاء مرة واثنتين وثلاثًا، وكل مرة كانت تحمل لهم وجعًا جديدًا. سنوات من الانتظار والتجديد المتكرر لقرار الإحالة جعلتهم يواجهون دوامة لا تنتهي من الروتين القاسي، حتى جاء اليوم الذي انتظروه طويلًا، يوم الخروج للعلاج.
لكن، بعيدًا عن أسيل، هناك عشرات الأطفال والمرضى الذين ما زالوا يقفون خلفها في طابور المأساة ذاته، يتمنون لحظة العبور، لحظة تنقذهم من موتٍ محقق.
تفويج ناقص وانتظار مميت
يوم الثلاثاء الماضي، انتاب المرضى وأهاليهم شعورًا بالإحباط بعدما ماطلت سلطات الاحتلال في إرسال الموافقات اللازمة لخروج حوالي 50 مريضًا من قطاع غزة للعلاج في الخارج عبر معبر رفح، مما أدى إلى تأجيل سفرهم. الانتظار لم يكن مجرد تأخير، بل كان معركة يخوضها كل مريض مع جسده المنهك.
والأربعاء، جاءت الموافقة على حوالي 40 مريضًا فقط، وليس 50 كما ينص الاتفاق. وحتى من أُدرجت أسماؤهم، لم يُسمح لهم إلا بمرافق واحد فقط، تاركين خلفهم عائلات وأطفال بلا معين. وكأن الاحتلال يريد أن يجعل من رحلة العلاج رحلةً أخرى من العذاب، لا تقل وطأة عن المرض ذاته.
شهادات الألم: وجوه تصارع الموت بصمت
في إحدى زاويا مستشفى غزة الأوروبي، وقف رجل فلسطيني وقد بدا على ملامحه الإرهاق ممزوجًا ببارقة أمل، بينما يحتضن طفله المريض بالسرطان. يشعر أن رحلة المعاناة قد وصلت إلى نهايتها أخيرًا، لكن قلبه ما زال يضطرب.
«مبسوط كتير إن ابني هيخرج يتعالج، لأنه عانينا لما وصلنا لمرحلة هذه التي هي مرحلة الصفر، عشان يتعالج، وإن شاء الله يرجع سالم»، قالها والدموع في عينيه، وكأن الكلمة بحد ذاتها ثقيلة، لا يستطيع استيعابها بعد كل تلك الأشهر من العذاب.
يتذكر الأب الأيام الصعبة التي مروا بها وسط الحرب والحصار خلال حديثه لـ«عُمان»: «لم يكن هناك مكان صحي يتلقى فيه ابني العلاج داخل قطاع غزة، ستة أشهر وهو ينتقل من خيمة إلى أخرى، ومن ركام إلى أنقاض، الوضع كان كارثيًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى».
يتحدث عن وضع المستشفيات بصوتٍ تملؤه المرارة: «الوضع الصحي في قطاع غزة متدهور، معظم المستشفيات قصفت، الأدوية غير متوفرة، والأطباء أنفسهم يكافحون بين إنقاذ الأرواح وندرة الموارد، وخاصة مرضى السرطان الذين يواجهون مصيرًا محتومًا إن لم يتمكنوا من الخروج».
نزيف لا يتوقف.. وقرار لم يصدر
لم يكن المشهد أقل قسوة بالنسبة لسميرة زعيتر، والدة شاب عشريني أصيب بشظايا قذيفة إسرائيلية، مزقت جسده ولم ترحم شبابه. تشعر أن كل يوم تأخير هو حكمٌ بالإعدام على ابنها، فإصابته خطيرة، لكنه ما زال قابعًا في سريره المتواضع، منتظرًا رحمةً لا تأتي.
«نزيفه لا يتوقف منذ أيام، ومع ذلك انتظرنا قرار تحويله للعلاج في الخارج وكأنه أمر ترفيهي، لا يتعلق بحياة إنسان»، تحدثت لـ«عُمان» والغصة تخنق صوتها.
كل يوم، كانت تستيقظ على أمل أن ترى اسمه في قوائم الموافق عليهم، لكنها لم تجد إلا الإحباط في وجه الأطباء الذين لم يعد بيدهم حيلة. تشعر أن الاحتلال يتلذذ بممارسة التعذيب البطيء، حيث لم يُسمح بخروج ابنها حتى الآن.
لم تتم الموافقة على خروج جرحى حرب السابع من أكتوبر حتى الآن، رغم أن اتفاق وقف إطلاق النار ينص على خروج المرضى والجرحى معًا. تقول سميرة بالقلق، وهي تحاول حبس الدموع في عينيها: «اليوم، لم تأتِ الموافقة، ولا أعرف كم من الوقت تبقى لابني، لكنني أعرف أن الاحتلال يمنحنا الموت على دفعات».
أبي بين الحياة والموت.. وأنا ممنوعة من مرافقته
بين المرضى المسموح لهم بالخروج، كان اسم الحاج أبو كمال غبن مدرجًا، وهو رجل في الستينيات من عمره، يعاني من فشل كلوي حاد ويحتاج إلى زراعة كلية عاجلة. لكن الصدمة الكبرى، لم تكن مرضه بحد ذاته، بل قرار الاحتلال بمنع ابنته الوحيدة من مرافقته.
«منذ سنوات وأنا من أرافق أبي في جلسات الغسيل الكلوي، أفهم احتياجاته وأعرف كيف أساعده. اليوم، قرر الاحتلال أن أمنع من السفر معه، وأبقوا على مرافق لا يعرف شيئًا عن حالته الصحية»، تروي لـ«عُمان» بصوت مخنوق بالدموع.
تشعر بالعجز أمام هذا القرار، فهي تدرك أن والدها لن يكون قادرًا على الاعتناء بنفسه في مستشفى غريب، بعيدًا عن أسرته. تحاول أن تقنع الضابط المسؤول، لكنه يرد بجملة باردة: «هذه هي التعليمات».
«أي تعليمات هذه التي تفصل الابنة عن أبيها وهو بين الحياة والموت؟ أي منطق يسمح بخروج المريض دون مرافق يعرف حالته جيدًا؟» تسأل، ولا تجد إجابة سوى الصمت القاسي.
الوضع الصحي في غزة: موت بطيء خلف الجدران
في قطاع غزة، لا تقتصر معاناة المرضى على مماطلة الاحتلال، بل تمتد إلى أوضاع صحية متردية داخل المستشفيات. يشير الدكتور أحمد الفرا، رئيس قسم الأطفال في مستشفى ناصر الطبي، إلى أن الاحتلال يتعمد تقليص عدد الخارجين للعلاج بشكل انتقائي.
يوضح الفرا : «هناك حوالي 30 إلى 40 ألف حالة تنتظر التحويل للعلاج بالخارج، لكن الاحتلال يتحكم بالموافقات وكأنها امتياز وليست حقًا».
ويشير إلى أن الاحتلال لم يلتزم بالعدد المحدد في الاتفاق، حيث سمح بخروج 38 مريضًا فقط بدلًا من 150 يوميًا، كما لم يسمح بتهجير فئات معينة من المرضى، كجرحى الحرب من المدنيين والعسكريين.
في ظل هذه المعاناة، يبقى الأمل في عيون المرضى معلّقًا بموافقة قد تأتي أو لا تأتي، ويبقى الألم حاضرًا، بلا موعد للرحيل.
0 تعليق