الشعبوية تدمر الأرض والقوانين تحميها

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

‏‏التهديدات التي يواجهها العمل البيئي والمناخي حول العالم، من صعود الحركات السياسية الشعبوية في أوروبا إلى الأفكار العبثية للرئيس دونالد ترامب في أميركا، قد تخفف سرعة التغيير لكن لن تتمكن من إيقافه. وأبرز ما يساعد في هذا المجال التشريعات والقوانين التي وُضعت موضع التنفيذ خلال السنوات الأخيرة، وسمحت بسَوْق المخالفين إلى المحاكم. وهذا ينطبق على الأفراد كما على الشركات والحكومات.اضافة اعلان
‏وكما لم يكن متاحاً للحكومة الهولندية التملُّص من الموجبات الأوروبية لتخفيف انبعاثات النيتروجين، بعد موافقتها عليها، لن يكون من السهل على إدارة ترامب تمرير تدابيرها الانتحارية ضد البيئة والمناخ. فهي ستواجه دعاوى قانونية لا حصر لها، إن على صعيد الحكومة المركزية أو الولايات الخمسين، علماً أنّ الولايات تتمتع، في مجالات لا تحصى، باستقلالية القرار عن الإدارة الفدرالية. وإذا كان الالتزام بالاتفاقات والمعاهدات البيئية والمناخية طوعياً، فالقوانين الوطنية المحلية إلزامية، يَخضع من يخالفها لعقوبات.
‏ما حصل أن أطرافاً في الائتلاف الحكومي الهولندي وعدت المزارعين بتخفيف القيود على انبعاثات النيتروجين، الناجمة أساساً عن أنواع من الأسمدة الكيميائية ورَوث المواشي، خاصة الأبقار. وكان الهدف الوحيد استرضاء بعض فئات المزارعين لكسب أصواتهم، بما يتعارض مع متوجبات العلم ومبادئ الاستدامة.
‏الفرع الهولندي لمنظمة «غرينبيس» أطلق حملة وطنية كبرى تحت شعار «لا مستقبل بدون طبيعة». لكن المنظمة لم تكتفِ بهذا، بل رفعت دعوى في المحاكم ضد الحكومة الهولندية لعدم اتخاذها الخطوات المطلوبة لتقليل مستويات النيتروجين في هولندا. وبعد تحقيقات ومداولات مع علماء وخبراء وجامعات وهيئات حكم محلية وممثلين عن منظمات أهلية، ثبت للمحكمة بالدليل القاطع أن أجزاء كبيرة من الطبيعة الهولندية تدهورت إلى حدود خطيرة بسبب النيتروجين، فضلاً عن آثاره في تسريع التغيُّر المناخي. لذا صدر الحكم أن تطبّق الحكومة، بلا تأخير، القوانين التي كانت وضعتها، لتخفيض انبعاثات النيتروجين في أكثر المواقع حساسية إلى النصف بحلول سنة 2030. ويتميّز الحكم بأنه ليس معنوياً فقط، بل هو يُلزم الحكومة بدفع غرامات بالملايين ابتداءً من 2030 إذا لم تنفذ الموجبات. ويبدو أن التأييد الشعبي الذي حصل عليه الحكم القوي والصريح قد يمنع الحكومة من محاولة الطعن، لأن فرصها في النجاح شبه معدومة.
‏ودعمت «غرينبيس» في الدعوى منظماتٌ زراعية هولندية تلتزم الحفاظ على البيئة، وهي تمثل آلاف «المزارعين الخضر»، الذين يعارضون توجهات الشركات الصناعية الزراعية وبعض كبار المستثمرين. ويرى «المزارعون الخضر» أن مستقبل الزراعة يعتمد على دوام صحة الطبيعة والتوازن بين مكوّناتها. ويصفون ممارسة الشركات والمزارع الكبرى، التي قصدت الحكومة مراضاتها لكسب ودّها، بمن يذبح دجاجة تبيض ذهباً طمعاً بالحصول سريعاً على ما في جوفها. لكنه هكذا يخسر مصدر رزقه المستدام، تماماً كما يدمّر دعاة «الزراعة المكثفة» الطبيعة الصحية لاستنزاف خيراتها، وهي مصدر رزقهم.
‏وما دمنا في أجواء الزراعة والمناخ، نذكر اتخاذ بعض الحكومات والمستثمرين الجشعين من «ضرورات» الأمن الغذائي حجة لتجاوز القيود والاشتراطات الضرورية للحفاظ على توازن الموارد الطبيعية وتجددها، ناهيك عن تجنب الكوارث المناخية. فتحتَ غطاء توفير الأمن الغذائي، أهملت مشاريع كبرى في المنطقة العربية قضية الأمن المائي، الذي يستدعي اختيار المحاصيل الملائمة لنوعية التربة ومصادر المياه، واستخدام أساليب الريّ الموفّرة، بدلاً من الاهتمام فقط بالدخل المادي من محاصيل زراعية تدرّ أرباحاً. فإذا أضفنا كلفة خسارة المياه غير المتجددة وتدهور التربة، نصل إلى خسارة فادحة لا تعوّضها أي أرباح فورية.
‏وكانت شركات كبرى زرعت مساحات شاسعة في أراضٍ عربية قاحلة، مستنزفةً المياه الجوفية غير المتجددة لريّها، بحجة الأمن الغذائي أيضاً. لكن ما حصل أن الحكومات اشترت المحاصيل بأسعار تشجيعية مدعومة تساوي أضعاف الأسعار العالمية الرائجة، فعمدت الشركات إلى مضاعفة الكميات لبيعها بأسعار خيالية، إلى جانب التصدير والاستيراد من الخارج للاستفادة من الفروقات. وتمّ هذا كلّه على حساب تدمير مقومات الأمن المائي واحترام الخصائص الطبيعية، مع اقتصار الفائدة على بعض كبار التجار والمستثمرين لا المزارعين.
‏وننهي بهولندا، حيث بدأنا. فقد حاولت الحكومة الحالية إدخال الأمن الغذائي كجزء أساسي من خطتها، ولكن وفق تفسير مغاير للواقع. فهي قصدت إيهام الناس أن وضع قيود على الانبعاثات من بعض أنواع المحاصيل الزراعية والتوسع في تربية الأبقار يشكلان تهديداً للأمن الغذائي. لكن سرعان ما سقطت هذه الحجة تحت مطرقة الواقع، وهو أن هولندا تنتج حالياً أضعاف ما يحتاجه شعبها من معظم المحاصيل، ولذلك تصدّر الجزء الأكبر منه. أما إذا كانت حريصة على توفير الأمن الغذائي لدول أخرى، فعليها الاستثمار بالإنتاج في تلك الدول، بدلاً من تدمير الموائل الطبيعية لزيادة المساحات المزروعة. ولا يجوز حصر الأمن الغذائي بزيادة قطعان الأبقار والخنازير، التي تهدد الموائل الطبيعية والمناخ. فالحل هو تخفيف استهلاك اللحوم حفاظاً على الصحة والبيئة معاً، والتحوُّل إلى نشاطات زراعية واقتصادية أخرى أقلّ ضرراً.
‏أعرف أن كلامي لن يعجب الرئيس ترامب، الذي يعتبر أن استهلاك «الهامبرغر» البقري بلا حدود أحد مقوّمات الأمن الغذائي على الطريقة الأميركية. لكن هذا لا يستقيم في عالم يهدده تغيُّر المناخ بالزوال، ويعجُّ بملايين الجياع الباحثين عن كسرة خبز. إلا إذا كان «الحل الترامبي» إرسال هؤلاء جميعاً الى الجحيم، أو نَفْيهم الى كواكب أخرى بهدف «تنظيف» الأرض منهم، فيستأثر هو وصحبه بخيراتها. ولا يمكن مواجهة هذا الجنون ووضع حد للطغاة الجشعين، الذين يدفعون البشر والطبيعة نحو الهلاك، إلا بتعاون دولي مدعوم بإرادة شعبية، لفرض قوانين العدالة كما الحق الانساني.

*نجيب صعب، الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق