«حداثة ظهرها إلى الجدار» لكنها تستهلكنا

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

انطلق فـي قراءة كتاب (حداثة ظهرها إلى الجدار قراءات فـي التحولات الثقافـية فـي مجتمعات الخليج والجزيرة العربية) للدكتور حسن مدن الصادرة طبعته الثانية عن دار الرافدين عام 2022م من عتبة وتساؤل. أما العتبة فذكرها المؤلف فـي كتابه وهي عبارة منقولة عن أحمد الذّوادي قالها تشارلز بلجريف - المستشار البريطاني فـي البحرين آنذاك كما يلي: «هؤلاء النّاس يريدون المشي قبل أن يَحبوا».

حيث يمكنها أن تلخص واحدة من أشكال علاقتنا الحالية -شئنا أم رفضنا- مع المستعمر الذي استعمر بلداننا كما استعمر بلدان الوطن العربي مشرقه ومغربه، تحت مسميات التحديث والتحضر!

أما التساؤل الذي شغلني وما زال يدور فـي فلك التقنيّة المتطورة والحداثة الاستهلاكية المعاصرة التي ننعم فـيها، دون أن نسهم إسهامًا فعليًا فـي إنتاجها وتصنيعها، ولا يقف السؤال عند المظهر الخارجي للحداثة، بل يغوص عميقًا فـي أشكال الكتابة الإبداعيّة وهواجسها والقراءات النقدية التي نقرأ بها النصوص، ونحلل الأعمال الفنية؛ دون أن يكون لدينا موقف فلسفـي ومعرفـي فـي البيئة التي نعيش فـيها أو الثقافة التي ننتمي إليها كهوية ووجود.

وأظهر مثال إبداعي يمكن تمثّله فـي تجليات مسرح اللامعقول الذي اتخذته بعض أشكال الكتابة الإبداعية والمنطلقات غير الفلسفـية التي قلدتها وسارت عليها؛ فإذا كانت الثقافة الدينية للإسلام هي جوهر هذه المجتمعات، فإنّ طابع التأثير والتأثر من ذلك (القادم إلينا من الضفة الأخرى للبحر المتوسط، الضفة الأوروبية) هو أكثر هيمنة واستئساد، فكيف نستسلم إلى مقولات تجليات الفلسفات الغربية فـي مجتمعاتنا التي ليست تقليدية تماما، ولا حديثة تماما؟ كيف لنا أن ننقدها وما الآلية الممكنة؟

فـي نقطة مفصليّة يناقش حسن مدن ملامح حداثة خليجنا المعاصر؛ إنها «حداثة برانية، وليست جوانية»-ما زلنا ندفع ثمنها إلى اليوم- يناقشها فـي ثلاثة مفاصل تكمن أسبابها فـي التالي: أولا أنها حداثة لم تنشأ فـي تربتنا العربية، بل دخلت مع الاستعمار. ثانيا هي حداثة عنيفة مارسته على كل البنيات الاجتماعية والفكرية التقليدية محدثة شروخا فـي الوعي والذاكرة واللغة والخيال وطرائق الإدراك.

ثالثا حداثة يُخلط فـيها بشكل رفـيع التحرر بالسيطرة، فهي تحرر من ثقل التراث، لكنها تعود لتلتف على هذه الحرية. ويشير فـي موضع من الكتاب مستندًا إلى آراء بعض الباحثين (الشيخ رفاعة الطهطاوي، محمد سبيلا، سعدالله ونوس، محمد أركون، جابر عصفور وغيرهم) إلى ضرورة التفريق المهم بين الحداثة والتحديث والتناقض الحاصل بينهما مناقشا رأي أركون الذي اتفق فـيه معه قائلا: «فالحداثة هي موقف من الحياة، ومن الظواهر ومن الأشياء فـي ثباتها وتحولها [...] أما التحديث فليس أكثر من إدخال التقنية والمخترعات الحديثة... وإجراء تغيير شكلي فوقاني، لا يرافقه أي تغيير جذري فـي الموقف من الكون والعالم... -ص 26». إن الإشكالية السابقة تتسق مع ربطه حسن مدن، فـي مدخل الكتاب بالقول: إنه يمكن اختزال الحداثة إلى عنصرين رئيسيين: الحداثة المادية، والحداثة الفكرية - ص 17، وهي المسألة التي سيتسع فـي مناقشتها فـي الفصل الثاني المعنون بالتحولات الثقافـية فـي مجتمعات الخليج العربي قبل اكتشاف النفط، حيث تحرك نقاشه فـي مكانين متمايزين، أولهما وسط الجزيرة العربية (نجد)، وثانيهما الساحل الشرقي للجزيرة وأقطار الخليج العربية التي شكلت على نحو دائم جاذبة للأطماع الأجنبية.

يقف حسن مدن كذلك عند الدور التنويري المهم للمدن العربية كالقاهرة وبيروت ودمشق وبغداد فـي «صنع ميراث الحداثة-ص 27».

واستوقفني مناقشته لفهم طبيعة التحولات التي جرت فـي بعض البلدان العربية، وأدت إلى حدوث انتكاسة الحداثة فـيها، فـيستشهد بالسجال الذي حصل مثلا فـي السعودية والعراق والجزائر حول السؤال التالي: لماذا لم يظهر فـي البلد أو المجتمع المعنيّ نظير لطه حسين؟ ولذلك السجال دلالته حتى اليوم، فما أحوجنا إلى مناقشته فـي ظل التحولات الديمغرافـية والاقتصادية والسياسية التي نعيشها اليوم. يقف فـي صفحات لمناقشة السؤال مفككا آراء بعض الباحثين كلٌّ من موقعه الثقافـي فـي بلده؛ كالكاتبة لطيفة الدليمي (حال العراق)، والباحث الزّواوي بغورة، ومالك بن نبي (حال الجزائر)، والدكتور أحمد الضّيب (حال السعودية). فـي التفاتة مهمة يلتفت الباحث إلى مناقشة إحدى صور الجمهور الحاشد فـي أمسية شعرية أقامتها وكالة أنباء البحرين عام 1970م بمجرد أن أعاد نشرها فـي بعض وسائل التواصل الاجتماعي أثارت الصورة ردود فعل المتابعين من البلدان العربية، وقارنوا بين الصورة ومشاهد شبيهة تحفظها ذاكرتهم، حيث استنتج أن صعود ثم نكوص الحداثة هي ظاهرة عربية بامتياز، ليُقر حسن مدن فـي موضع من الكتاب لا شك فـي أن مجتمعات الخليج العربي مع الحداثة المستهلكة فـي النهضة العمرانية واستيراد السيارات والأجهزة الفارهة تواجه تحديات كثيرة لا يمكن تناولها «إلا فـي إطار رؤية المسار المعقد للحداثة العربية منذ بداياتها حتّى اليوم-ص 37، [...] ولا يمكن قراءة التحولات الثقافـية فـي مجتمعات الخليج والجزيرة العربية من التقليد والمحافظة إلى التحديث والتجديد خارج السّجال العربيّ حول هذه المسألة-ص 37».

هل العزلة التي مُنيت بها مجتمعات الخليج العربي كانت حقيقية؟ وإذا لم تكن كذلك كيف جرى الترويج لها واستقرارها فـي أذهاننا؟ هذا السؤال ناقشه الراحل الدكتور إبراهيم عبدالله غلوم فـي كتابه (المسرح والتغير الاجتماعي فـي الخليج العربي- 1986م) فـي حديثه عن العزلة السياسية التي فرضها الاستعمار البريطاني، وأبعدت مجتمعات الخليج عن فرص الاتصال بأسباب المعرفة وأوجه الحضارة.

وفـي سياق هذا المستعمر الذي أرسى قواعد احتلال العالم كله، ينتبه حسن مدن إلى أبلغ وصف لأسلوب البريطانيين فـي إدارة بلداننا، جاء الوصف فـي كتاب (ملوك العرب) لأمين الريحاني بالقول: إن الفرق بين الاستعمار الإنجليزي واستعمار الدول الأخرى هو أن هذا الأخير كالجزار الذي يقتل شاته دفعة واحدة، أما الاستعمار الإنجليزي فهو كمن يُعذب الشاة وخزا بالإبر حتّى الموت، فأي المِيتَتَين أولى؟».

يفكك حسن مدن بتفصيل مهم العزلة التي أصابت مجتمعات الخليج، ويكشف النقاش عن نظرة الاستحواذ للسلطات البريطانية لإبقاء منطقة الخليج فـي عزلة وهي نظرة متأصلة نظرت بها إلى العالم. إزاء تلك الصورة الاستعمارية، يمكن النظر إلى اعتبار مجتمعات الخليج العربي كوحدة ثقافـية ملمح إيجابي يدعو إلى التفاؤل. تناول المؤلف سيرة عدد من الأدباء والمبدعين الخليجيين الذين يصعب نسبتهم إلى بلد خليجي بعينه مؤكدًا مع الرأي الذي ذهب إليه الراحل محمد جابر الأنصاري فـي كتابه (لمحات من الخليج العربي) إلى افتقاد أي بحث للمنهجية المتكاملة إن أغفل هذا التنسيب من ذلك يشير مثلا إلى (ابن المقرب العيوني، خالد الفرج، عبدالرحمن المعاودة، وعبدالله الطائي).

يُعد الفصل الثالث (الهند نافذة الخليج الثقافـية الأولى على الآخر)، حسب تقديري أهم فصول الكتاب، لا يقلل من قيمة الفصلين السابقين، لكنه إجابة عن معنى العزلة التي منيت بها بلدان المنطقة، ومفتاح من مفاتيح المعرفة تحليل راهننا. أيقظ هذا الفصل الكثير من النقاط، وكان للتفريق بين الهجرة الآسيوية المبكرة إلى الخليج وهجرة الموجات الجديدة التي اقترنت بالطفرة النفطية والحاجة إلى أيد عاملة رخيصة لإنجاز المشروعات العملاقة، أكثر من إجابة حول الأسئلة التي نطرحها فـي أحاديثنا اليومية حول الوجود المتوغل للهنود فـي المنطقة، وحول عجز الدراما الخليجية حتى اليوم التطرق بعمق وتحليل للعديد من الظواهر السلبية الناشئة فـي مجتمعات الخليج، وحول وجود جفوة على السطح غير متعمقة توضح مدى هذا التوغل، وكأننا استبدلنا احتلالا إنجليزيا بآخر آسيوي، دون مساءلة! وانتبه حسن مدن كذلك إلى تناول النخبتين التجارية والثقافـية، وحال مدينتين بومبي وكراتشي، وإن كانت الغلبة لبومبي مرتع الغزلان من قدم وملتقى كلّ محبوب ونشوان.

يقّر عطفا على ما تقدم حسن مدن أنه يبدو طبيعيا فـي ظروف العزلة التي فرضها الاستعمار ودوافعه أن تكون الهند بالذات الشرفة التي أطل من خلالها نفر من المتنورين من أبناء الخليج على ثقافتهم، وقد كانت الهند المكان الأبرز وجودا فـي الموروث الشعبي والاجتماعي والثقافـي المحلي لمجتمعات الخليج قبل هبوب رياح التغيير فـي خمسينيات القرن الماضي.

تنبع أهمية هذا الكتاب، ليكون قراءة فاحصة حول ما أثاره الدكتور طه حسين عما يُعرف بعزلة الجزيرة العربية وأطرافها فـي شاطئها الشرقي وبقية إمارات الخليج العربي. إن فصول الكتاب الأربعة بالإضافة إلى صفحات الإهداء، ومقدمة ومدخل وخاتمة، وثبت للمصادر والمراجع، المتوزعة صفحاته على ثلاثمائة وست عشرة صفحة من القطع الكبير ليست تاريخًا لبلدان المنطقة، أو خطابًا منغلقًا، بل هو قراءة فـي سوسيو-ثقافـية لمجتمعات غير منفصلة عن العالم أفرزت مجتمعات استهلاكية متطلّبة، كما ظهرت طوائف من المتزمتين المحافظين والمثقفـين المنفتحين والتكنوقراطيين. ويقف المؤلف فـي الخاتمة عند خلاصات وتحديات أراها يمكن أن تكون فصلا خامسا للكتاب، لما يقترحه من أفكار تتصل بواقع ثقافة بلداننا جميعا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق