الوطن ليس مجرد بيت، أو شارع، أو قطعة أثاث يمكن نقلها أينما حللنا أو ارتحلنا، بل إنه الهوية، وإنه الذاكرة، وإنه تاريخ الأجداد ومستقبل الأحفاد، من منا يستطيع أن يمحو ذاكرته، من منا يستطيع أن يتنكر لصوت الأذان أو أجراس الكنائس التي تضبط ايقاع الروح، أو لرائحة الخبز التي كانت تتسلل من نوافذ البيوت القديمة، أو لصوت البحر الذي ظل يهمس في أذنيه لسنين؟!اضافة اعلان
إذا تأملنا طبيعة الإنسان نجد أن الوطن بالنسبة له ضرورة وجودية، وهو جزء لا يتجزأ من كينونته وهويته، فحين يسلب الإنسان من وطنه فكأنما ينتزع من أحاسيسه وشعوره ونظامه المعرفي والوجداني، بل هو تفكيك قسري لوجوده، إنه أشبه بمتفيزيقيا الاقتلاع، حيث يتحول الإنسان إلى كيان معلق بين الفراغ والانتماء.
عندما يقول دونالد ترامب إن الحل لغزة هو تفريغها من أهلها، لم يكن يتحدث هنا كرجل سياسة، بل كان يتحدث بمنطق الطغاة الذين لا يرون البشر إلا أرقاما يمكن محوها أو نقلها، كما تنقل البضائع، هذا تصريح ليس فقط غير إنساني، بل هو إنكار فج لفكرة الوطن، ومحو متعمد للهوية، واعتداء على أبسط حقوق الإنسان في الوجود والانتماء.
كلام ترامب عن “ تفريغ غزة “ من أهلها هو إعادة لإنتاج العقلية الاستعمارية التي قامت عليها جرائم التطهير العرقي عبر التاريخ، إن اقتلاع السكان الأصليين من أرضهم لمجرد أن وجودهم “ غير مرغوب فيه” هو نهج استخدمه المستعمرون الأوروبيون ضد سكان أميركا الأصليين، واستخدمه الاستعمار الصهيوني ضد الفلسطينين في نكبة 1948، والآن يأتي ترامب ليكرره وكأنه أمر عادي يمكن فرضه بقرار سياسي، هل يعتقد أنهم يمكنهم ببساطة “ الاختفاء” كما لو أنهم لم يكونوا يوماً، إن هذا التفكير يكشف عن نفسية سادية ترى البشر كأحجار شطرنج يمكن التخلص منها في أي لحظة.
إن أقسى أشكال الظلم هو أن يحرم الإنسان من وطنٍ ولد وعاش فيه، فلو فرضنا أن الظلم مائة درجة لكان أول درجات الظلم أن يسلب من الإنسان وطنه، بل أكاد أجزم أن لا ظلم أشد على الإنسان منه مهما بلغ، لأن الوطن ليس هو الأرض فقط، بل هو أعم وأشمل، فهو إيمان وعقيدة، ذكريات ومشاعر وأحاسيس، إن من ينشأ في وطن وينبت جسده من خيراته، ويختلط بدمه ولحمه، فنزعه منه هو نزع للروح من الجسد.
إن تصريح ترامب هو خطاب عنصري بامتياز، إنه لا يتحدث عن حلول واقعية، إنه يتحدث بعقلية مادية محضة وكأنه يريد أن يتخلص من مشكلة اقتصادية، وليس قضية إنسانية بترحيل شعب عن وطنه، لكن لو كان ترامب صادقا في سعيه لحل مشكلة غزة، فلماذا لا يتحدث عن تفريغ الاحتلال بدلا من تفريغ أهلها منها؟ لماذا يرى المشكلة في أهلها، ولا يرى المشكلة في المحتل الذي لم يجلب لأهلها إلا الخراب والدمار والقتل؟.
إن هذا الخطاب ليس مجرد زلة لسان، بل يكشف عن الوجه الحقيقي في ازدواجية المعايير الحقوقية والأخلاقية، التي تنتهجها الولايات المتحدة دعماً للجلاد في مواجهة الضحية، وهذا السلوك سينتهي بتراجع أكيد لأميركا عن قيادة العالم، وستخسر احترام العالم لها، لأن قيادة العالم لن تسلم لأي دولة ما لم تحترم حقوق الإنسان الأساسية، وإن تراجعها عن حماية الحقوق الإنسانية هو بمثابة قلب الطاولة على نفسها، وتخل على العهود والمواثيق الدولية.
إن الذين يظنون أن الوطن يمكن استبداله، يفكرون بعقلية الميكانيكا السياسية، التي ترى الإنسان ككائن مادي يمكن نقله من مكان لآخر دون أن يفقد جوهره، لكن الواقع أن الوطن هو الروح الجمعية للأمة، وهو الذاكرة التاريخية التي تتشكل عبر الأجيال، ولذلك فإن كل محاولات اجتثاث الإنسان من وطنه ليست سوى أوهام، لأن الوطن سيبقى يعيش في الإنسان، حتى لو أُخرج الإنسان من وطنه، وليقل ترامب ما يشاء، فالأوطان لا تمحى بقرار سياسي، ولا تُباد الشعوب التي تريد الحياة.
0 تعليق