في ندوة بعنوان "الترجمة والإيديولوجيا" نظمتها لجنة العلوم الاجتماعية بالتعاون مع لجنة الترجمة في رابطة الكتاب الأردنيين، سلّط المتحدثون الضوء على التأثير العميق للأيديولوجيا على عملية الترجمة، وكيف يمكن أن تشكلَ النصوص المترجمة لتخدم رؤى وأهدافا معينة.اضافة اعلان
وتحدث في الندوة التي أقيمت مساء اليوم في الرابطة كل من: أستاذ اللغويات ورئيس جمعية أساتذة اللغة الإنجليزية وآدابها والترجمة في الجامعات العربية، الدكتور جهاد حمدان، وعميد كلية الآداب الأسبق في الجامعة الأردنية، الدكتور مجد الدين خمش. كما أدارت الندوة أستاذة اللغة الإنجليزية وآدابها، الدكتورة دعاء سلامة. أقيمت الندوة يوم الخميس في مقر الرابطة.
الدكتور جهاد حمدان، أستاذ اللغويات، أوضح كيف يمكن للمترجم المتأثر بأيديولوجيا ما أن يعيدَ تشكيل النص المترجم، بوعي أو دون وعي، ليوافقَ رؤيته الشخصية أو رؤية الجهة التي يعمل لصالحها.
وأوضح أن أحد الأهداف الرئيسية لوسائل الإعلام ووكالات الترجمة هو إقناع المتلقين بآراء ووجهات نظر معينة.
وتحدث حمدان عن خبر تلقفته وكالات الأنباء وأعادتها بثّه، حول جملة وردت في ردّ جلالة الملك عبد الله الثاني باللغة الإنجليزية على سؤال في المؤتمر الصحفي مع الرئيس ترامب حول موقفه من خطة ترامب للاستحواذ على غزة. حيث أجاب الملك:
The point is how to make this work in a way that is good for everybody.
وقد نقلت الترجمة الفورية لقناة الجزيرة في حينه التصريح بصيغة مختلفة تمامًا، إذ قالت: "سوف نرى كيف سيتم تنفيذ ذلك لمصلحة الجميع"، أي أن الملك سينتظر تنفيذ الخطة ليحكم إن كانت ستخدم مصلحة الجميع.
وأكد حمدان أن هذه ترجمة مشوّهة لعبارة الملك، وتوحي بقبوله للخطة. أما أنا فأقترح الترجمة الآتية: "السؤال هو: كيف يمكن لهذه الخطة أن تنجح بحيث تلبي مصالح جميع الأطراف؟ "مع نبرة استنكار ضمنية من الملك".
قال حمدان: لا يتم نقل الرسالة التي تقدمها هذه الوكالات دون هدف. فمن المرجح أن تتأثر الرسالة المبثوثة بمعتقدات المترجم وأفكاره وقيمه، أي بأيديولوجيته. فالمترجم هو قائد عملية الترجمة التي تمثل دور حامل الأيديولوجيا من لغة أو مجتمع ثقافي إلى لغة أو مجتمع آخر.
وأضاف أن المترجمين غالبًا ما يتمتعون بحرية اختيار النص المصدر وتحديد الجمهور المتلقي والاستراتيجيات التي يطبقونها. وتؤثر هذه الاختيارات على عملية الترجمة ومخرجاتها من خلال تطبيق استراتيجيات مثل الاختيار المعجمي، الاستبدال، الإضافة، والحذف، التي قد تغير من معنى النص الأصلي.
ثم تحدث حمدان عن تجسد الترجمة، خاصة في سياق الصراع وعدم الاستقرار، لعدد من القضايا الحساسة والمثيرة للجدل التي تمثل مواقف سياسية وأيديولوجية معينة، قائلاً: "تتأثر هذه المواقف بشكل أساسي بآراء المترجم أو بمعتقدات وكالة الترجمة التي يعمل فيها." لافتًا إلى أن الترجمة قد تتحول إلى فعل تأمري يساهم في إعادة تشكيل أفكار المتلقين وتصوراتهم تجاه بعض القضايا الحساسة.
وعندما يتحقق هذا الهدف، يخلق سياقًا يتأثر فيه المتلقي قسريًا بأيديولوجية المترجم من خلال أفكار جديدة وتعابير ثقافية تبعده عن منظور معين أو تربطه بأفكار ومعتقدات تتسلل إلى النص الهدف.
وقد تؤكد الاختيارات الأيديولوجية للمترجم أو تحجب المعنى والرسالة الكامنة وراء النص المصدر، وبالتالي تغير أفكار ومعتقدات مؤلفها. وقد تقود هذه التغييرات إلى التلاعب بعقل القراء من خلال تقديم نسخة جديدة محملة بمفاهيم وأفكار "غريبة". وبمجرد حدوث ذلك، يصبح النص الهدف تحريفًا أيديولوجيًا يخدع المتلقي ويبعده عن المعنى الأصلي ويخلق فهمًا مختلفًا، خاصة في سياق الصراع السياسي وعدم الاستقرار، بهدف توليد مفاهيم معينة أو إضعاف بعض المفاهيم الراسخة.
من جانبه، رأى الدكتور مجد الدين خمش أن مهنة الترجمة تقوم على امتلاك المترجم المتدرب والممارس للمهارات الأساسية، مثل معرفة قواعد اللغة العربية وقواعد الترقيم فيها، وفهم التقنيات البلاغية ودلالاتها اللغوية والثقافية. واعتبار هذه العلامات والتقنيات جزءًا من اللغة، تؤثر على المعنى، وقواعد اللغة الأخرى، أو اللغات الأخرى، وعلامات الترقيم فيها ودلالاتها اللغوية والثقافية.
وأضاف أنه من الضروري قراءة النص المراد ترجمته، سواء كان أدبيًا أو سياسيًا أو اقتصاديًا أو دينيًا، والتعمق فيه لحسن اختيار المصطلحات والمفاهيم المناسبة لكل حقل من هذه الحقول.
كما أشار إلى أهمية فهم المعنى الأساسي لكل جملة ضمن سياقها للوقوف على المعنى الصحيح الذي قصده المؤلف الأصلي.
وأكد على ضرورة تجنب الوقوع في شرك الترجمة الحرفية الميكانيكية، لأنها تضعف عملية إيصال المعنى الأصلي في النص، بما في ذلك إيحاءات المؤلف الأصلية، مما يقلل من بلاغة الترجمة ومستواها. ولا شك أن انضمام المترجم إلى جمعيات الترجمة ومراكزها في المؤسسات الأكاديمية يعمق معرفته ويساهم في امتلاكه لهذه المهارات الضرورية.
ثم تحدث خمش عن الأيديولوجيا قد تكون معرفية وإعلامية، تتغلغل في ثنايا الآداب والفنون والعلوم ومناهج التعليم، وتعمل على نشر تحليلات ومعلومات تخدم مصالح من يقدمها بشكل مباشر، كما في أدبيات الاستشراق، وفي خطابات الإعلام الإسرائيلية بشكل خاص، أو بشكل غير مباشر كما في ترجمات العديد من الروايات والدراسات الاجتماعية التي توثق طريقة حياة الطبقة الوسطى الغربية. ومن الأمثلة على ذلك استخدام السرد الروائي في تعليم الفلسفة وتاريخها، والبحث عن الهوية وتطوير الذات من خلال الفلسفة، كما فعل جوستاين غاردر في كتابه "عالم صوفي"، والذي ترجم إلى العديد من اللغات العالمية من بينها العربية.
وخلص خمش إلى إن ترجمة كتاب ماكس فيبر من الألمانية والإنجليزية إلى العربية "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، حيث دعم توجهات قيمية ودينية إيجابية مهمة يمكن الاستفادة منها، مثل: الشغف بالعمل، وإتقان العمل، وتجويد الصنعة، وعدم الغش، والعقلانية، والسلطة القانونية، والتوجهات الاستثمارية، ودافع تحقيق الربح المعتدل، والمشاركة في تنمية الاقتصاد والمجتمع، معتبرًا إياها من الحسنات التي تشفع للمؤمن يوم القيامة.
من جانبها، قالت د. دعاء سلامة: تُعَدُّ الترجمة وسيطًا حيويًا في نقل المعارف والثقافات بين الشعوب، لكنها ليست مجرد عملية لغوية محايدة، أو نشاطًا فرديًا خاصًا يربط بين كاتب وكتاب ومترجم لنقل الكتاب من لغة إلى لغة أخرى، بل إنها تتأثر بالسياقات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي تنشأ فيها. مبينة أن كلمة "أيديولوجيا" ظهرت في القرن الثامن عشر إبان الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 مع المفكر دوستان دي تريسي، وحملت دلالة أو معنى مباشرًا هو "علم الأفكار"، وكان الأيديولوجي بمثابة المفكر أو الفيلسوف. وقد حظي المصطلح ودلالته باحترام الوسط الثقافي في ذلك الوقت، حتى جاء نابليون بونابرت الذي كان يطمح لتنفيذ مشروعه الإمبراطوري بالتوسع ونشر أفكار الثورة الفرنسية في العالم، فاصطدم مع الأيديولوجيين وازدرى مشروعهم الفكري والتنويري.
وأصبحت دلالة الأيديولوجيا تقتصر على التوتولوجيا، أي الهراء أو الكلام المغرض الفارغ. ومنذ القرن التاسع عشر، نسي الناس معناها الإيجابي، وأصبحت مع ماركس في تلك الفترة تعني "الوعي الزائف والمجرد والبعيد عن الواقع والحقيقة"، عكس "الوعي العلمي المطابق للواقع".
وقد ظهر ذلك في كتابيه "الأيديولوجية الألمانية" و"العائلة المقدسة"، حيث وجه فيهما نقدًا مريرًا وهجائيًا للهيغليين الشباب الذين انفصل عنهم وسموا أنفسهم "تيار النقد النقدي.
0 تعليق