ترجمة: أحمد شافعي
في الوقت الذي يلقي فيه زعماء العالم تهديداتهم بشأن إنهاء وقف إطلاق النار في غزة هذا الأسبوع، سوف يستعرض الفلسطينيون حطام منازلهم داعين لوقف إطلاق النار أن تصمد. ولقد قوبل اقتراح دونالد ترامب بأن «ما علينا هو أن نزيل» السكان من غزة ونرسلهم للعيش في الأردن ومصر بإدانة واسعة النطاق في شتى أنحاء العالم. ولكن من واقع تجربتي، لن يكون ترامب هو الزعيم الوحيد الذي يفكر في ذلك.فمن وراء تلك الكلمات يكمن عدد من الافتراضات، أكبرها أنه لن يوجد من يرغب في البقاء هنا. فقد وصف عمال وكالات الإغاثة مشهدًا للجحيم. في إحاطة في الثلاثين من يناير، وصفت مها الخطيب، منسقة الصحة في لجنة الإنقاذ الدولية، النظام الصحي بأنه «منهار بالكامل». وقالت: إن ما يحتاج إليه الفلسطينيون على الفور هو الإمدادات الطبية والمياه والغذاء. ولكن ما يحتاجون إليه أيضا هو «العمل بعيد المدى» من أجل أن تصبح الحياة ممكنة في غزة.
إذا ما تمكن ترامب من تحقيق هدفه، فلن تكون هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها نقل شعب بسبب حرب. فقد تم تهجير مليوني شخص قسرا خلال صراع البوسنة والهرسك في الفترة بين عامي 1992 و1995، ولا يزال أكثر من مليوني شخص نازحين داخليا في العراق. ولن تكون هذه هي المرة الأولى أيضًا التي يتم فيها نقل الناس باعتبار أن نقلهم يمثل استراتيجية استجابة طارئة وحسنة النية. ففي أعقاب إعصار كاترينا في عام 2005، تجمع سكان مدينة نيو أورلينز التي غمرتها الفيضانات في الحافلات وتم توزيعهم على ولايات أخرى باعتبارهم «لاجئين داخليين»، في عمل وحشي تذكر به البعض زمان العبودية.
غالبا ما يحب مقاولو الكوارث العمل وفقًا لما أسميه «نموذج المريخ» لإعادة البناء الإنساني أي وكأنهم يستعمرون كوكبا. فيفضلون عدم وجود بشر يعترضون طريقهم بمطالب فوضوية، راغبين فقط في أنقاض يطحنونها وطرق يقيمونها. وتنتشر رأسمالية الكوارث بسبب وجود مبالغ ضخمة من المال يمكن جنيها في أعقاب الحرب. ولا يمت نموذج المريخ بصلة لأفكار الوطن، أو لصلة الإنسان بالتربة التي تحته.
تجربتي المتكررة بعد الكوارث البيئية تتمثل في نقل مجتمعات بأكملها إلى مساكن مؤقتة في أماكن أخرى، بما يتسبب في تصدع كامل لحياتهم ومجتمعاتهم. وبينما يرحلون، لا يبقى لهم إلا الرجاء في أن يتصرف المقاولون المعينون بأخلاقيات الرعاية، وهو ما لا يمكنهم الاعتماد عليه دائما. فقد تبين لتقرير نشر بعد ثلاث سنوات من فيضانات عام 2007 في حال أنه «تحتم على العديد من الناس أن يتعاملوا مع الصدمة المزدوجة التي تحدث عندما تتفاقم الكارثة الأولى (أي كارثة الفيضان) بكارثة ثانوية هي المعاملة السيئة من الشركات والوكالات المختلفة التي يفترض أن تساعد في التعافي». قد تكون هناك أخلاقيات إنسانية ومخاوف أمنية حقيقية تكمن وراءها، كما حدث عندما شهدت نقل الناجين من «المناطق الحمراء» التي ضربها زلزال كرايستشيرش بنيوزيلندا في عام 2011، ولكن يبقى من الممكن أن يتسبب الاقتلاع من الأرض في مشاكل على المدى البعيد.
وصف البعض ما يلاقي العائدون إلى غزة من أضرار بـ«الدمار التام» ولكن هذه البلاغة تخاطر بإضافة ثقل إلى الحجة المنادية بـ«التطهير»، إذ يصبح من السهل أن نزعم أن أحدًا لن يرغب في العيش في مكان ما عندما يصعب للغاية رؤية ما كان موجودا فيه من قبل. ولكن حب المكان يتعلق بأكثر من محض ما تقع عليه العيون. يقوم البشر في مختلف أنحاء العالم، وبغض النظر عن ثقافاتهم أو عقائدهم، بأمور متشابهة تشابها كبيرا عندما يعودون إلى أماكنهم المحطمة وهي أمور «عاطفية» من قبيل ربط الزهور بأقماع المرور وأذرع الرافعات، ففي إيطاليا ونيوزيلندا، بعد زلازل مدمرة، كنت شاهدة على مسابقات طهي جماعية، ووقفات احتجاجية، وإصلاح مغاسل، وتخصيص مساحات لرعاية الأطفال الصغار. وعادة ما يظهر شخص ما فيبدأ بيع القهوة في شاحنة، ويحدث كل ما من شأنه أن يؤدي إلى إبطاء برنامج العمل ويعرقل عمل المهندسين ورأسماليي الكوارث.يفرض «التعافي» المادي إعطاء الأولوية للطرق والمياه والصرف الصحي والطاقة. وليس من الخطأ أن نفعل ذلك: ففي ظل نقص النظافة يزداد خطر الإصابة بالأمراض. ولكن من واقع عملي في كل مكان عملت فيه بالعالم، فإن أول ما يريد البشر القيام به هو العثور على الموتى ثم دفنهم. وتقدر وكالة الدفاع المدني في غزة أن أكثر من عشرة آلاف جثة لا تزال ملقاة تحت الأنقاض، ولا يمكن أن يعاد بناء أي مجتمع على مقبرة جماعية. ولكن العظام تعترض مسار الطرق التي تجب إقامتها، فيكون محكوما على العديد من الأسر أن تمنى بخسارة غامضة معناها أنها لن ترتاح حقا مرة أخرى.
في الشهر الماضي، قال مبعوث الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف: إن إعادة بناء غزة ستستغرق ما بين عشرة أعوام وخمسة عشر. وبطبيعة الحال، قد تعتمد إعادة بناء أي شيء على ما تتسامح معه إسرائيل. وإذن، فسوف ينحرف أي بناء مادي عن مساره بسبب نكسات مستمرة تتمثل في توترات وسياسة وجشع وكذلك تدفق ثابت من الهجرة. ولقد وصفت لنا أدبيات الكوارث والصراعات نوع الهجرة التي تحدث عندما لا يستطيع الناس البقاء على قيد الحياة في المكان الذي يحبونه. لعل ترامب يرى بالفعل عملية التطهير، لكنها ستكون بطيئة: فيتم إرسال الشباب للدراسة أو لكسب المال في مكان آخر، ويغادر كبار السن لعدم احتمالهم المزيد من الضوضاء أو المخاطرة أو التوترات. والحقيقة أنه ليس من المستحيل إعادة بناء غزة، إذا ما سمحت إسرائيل بذلك، وتوافرت للعالم الإرادة. لقد قالت أمهات أجريت معهن حوارات الأسبوع الماضي: إنهن سيعشن في خيام إلى الأبد، طالما استطعن الاستمرار في العيش على هذه التربة. لكن الخيام لن تكون كافية. فبالإضافة إلى الغذاء والمياه والأدوية العاجلة، وكذلك البنية الأساسية بعيدة المدى وأعمال إعادة البناء، سيحتاج سكان غزة إلى المساعدة والوقت والمساحة للتعافي. تقول الدكتورة ماهيم قريشي جراحة الأوعية الدموية في هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية التي عملت في مستشفى الأقصى في غزة في أبريل وأكتوبر 2024: إن أشد ما صدمها هو أن الأطفال فقدوا رد فعلهم الانعكاسي لدى سماع دوي القنابل بعد أن سمعوها وهي تسقط لعدة أشهر. وتتحدث عن تأثير عابر للأجيال سيستمر لعقود من الزمن. بجانب مضخات المياه وغرف العمليات والمخابز، ستكون هناك حاجة إلى أماكن لدعم لهؤلاء الأطفال كي يتعافوا على مهل وبشكل جزئي.عندما يعمل المرء في أعقاب الكارثة، فإنه يتعلم التعامل مع كل يوم على حدة، والاحتفاء بكل خطوة صغيرة إلى الأمام. يتعلم الابتهاج بشاحنة القهوة وبالزهور إذ توضع في أقماع المرور. فالعودة إلى مكان «مدمر تمام التدمير» والبقاء فيه من أشجع الأمور التي رأيتها على الإطلاق. وإنني أدعو الله أن يدعم العالم هذا العمل ويقاوم إغراء «التطهير»، وأدعوه أن يزدهر الأطفال مرة أخرى في غزة، وسوف يتطلب هذا الأمر أكبر جهد دبلوماسي شهده العالم على الإطلاق.
0 تعليق