
بقلم: عدنان حميدان
في مستشفى الأمير حسين، القريب من مخيم البقعة، تختلط رائحة الأدوية برائحة الحياة بكل تناقضاتها. هنا، لا يأتي الناس فقط للعلاج، بل ليحملوا معهم شيئًا من أوجاع المخيم، وكأنّ جدران المستشفى تلقي ظلالًا من المعاناة على كل زاوية فيه. لكن رغم كل شيء، يظل هناك شيء دافئ في الأجواء، شيء يشبه التكاتف الذي لا تجده في أماكن أخرى، حيث يصبح الجميع عائلة واحدة، حتى لو جمعتهم الصدفة في طابور الصيدلية أو أمام غرفة الطبيب.
الفراسة فن إجباري!
مع مرور الوقت، تكتسب مهارة جديدة لم تكن تتخيلها: الفراسة التي لا تخطئ! تجلس في صالة الانتظار، فتمر أمامك قصة بلا مقدمات. هناك رجلان يجلسان جنبًا إلى جنب، ملامحهما متشابهة إلى حد يجعلك تجزم أنهما شقيقان، لكن التفاصيل تفضحهما؛ الأول بملابس متواضعة، حذاؤه شاهد على شوارع المخيم، بينما الآخر أنيق تفوح منه رائحة عطر باهظ، وساعته اللامعة تكشف عن فرقٍ واضح في أسلوب الحياة. لا تحتاج لكثير من التفكير، فالأول لا يزال قابعًا في القرية أو المخيم، يواجه تفاصيله اليومية، بينما الثاني عاد مؤخرًا من الخليج، محمّلًا بالهدايا، لكنه يحمل في عينيه نظرة غريبة، نظرة من يرى المكان وكأنه غريب عنه. وعندما تسنح لك الفرصة للحديث معهما، تجد أن تحليلك كان في محله تمامًا!
الواسطة… أكثر من مجرد دواء!
في هذا المكان، لا أحد يأتي وحده، فالمرض وحده لا يكفي، بل تحتاج إلى “واسطة” أقوى من الدواء. هنا، يعرف الناس أن العلاقات الشخصية قد تفتح لك أبوابًا موصدة، لذا يصبح الجميع خبيرًا في فن البحث عن معارف في الإدارة، في وزارة الصحة، أو حتى في المستودع الطبي! فالصداقات هنا لا تقتصر على الأطباء والممرضين، بل تمتد إلى عمّال النظافة والحرس، الذين قد يكون لهم التأثير الأكبر في تسهيل الأمور. تعلم أنك في بيئة المستشفيات الحكومية عندما تجد شخصًا يتحدث مع أمين المستودع وكأنه وزير الصحة شخصيًا، بينما آخر يقدم قهوة للحارس بوجه مبتسم وكأنه يقدّم عربون صداقة لعمرٍ طويل!
رغم الإرهاق.. الإنسانية لا تموت
لا يمكن إنكار أن الأطباء والممرضين يعيشون حالة إنهاك دائمة، فالمستشفى مزدحم، الضغط كبير، والموارد محدودة. لكن رغم ذلك، تجد بينهم من يحاول جاهدًا أن يمنح المرضى ابتسامة صادقة، أو كلمة طيبة تخفف من وقع الألم. هناك طبيب في قسم الطوارئ يهرع من مريض لآخر وكأنه في سباق ماراثوني، وممرضة تسند سيدة مسنّة بيدها بكل صبر وحنان، وكأنها تُطمئنها أن الدنيا لا تزال بخير. هذا التعب الشديد لم يمنع الكثيرين منهم من الاحتفاظ بإنسانيتهم وسط كل هذا الضغط، وهذا شيء يُحسب لهم.
التصميم الغريب.. وطقوس الزوار!
وبعيدًا عن الأطباء والممرضين، هناك أمور لا يمكنك تفسيرها أبدًا! مثل تصميم الحمام في غرفة المريض بلا أي أدوات تساعده على الوقوف، وكأنه من المفترض أن يأتي المرضى هنا ليُجرّبوا مهاراتهم في التوازن! أو ذلك الرد الذي يأتي من وحدة الأسرة بكل برود: “لا يوجد سرير في أي مستشفى”، وكأن المرضى يمكنهم تأجيل أمراضهم لحين توفر الشاغر!
أما الزوار، فهم فصل آخر من الحكاية! لكل مستشفى طقوسه، ولكن في المستشفيات الحكومية، هناك زيّ غير رسمي لا يحتاج لإعلان رسمي: “الحفاية” في القدمين، و”الفروة” على الأكتاف! ستجد الجميع تقريبًا بهذا الزي، خصوصا في هذا البرد، وكأن هناك قانونًا غير مكتوب بأن زيارة المريض لا تكتمل إلا بهذه الإطلالة التقليدية. أما كبار السن، فلهم مكانة خاصة، فالجميع يحرص على إفساح المجال لهم، والاستماع إلى نصائحهم، حتى لو كانت تدور حول فوائد زيت الزيتون لكل الأمراض!
مستشفى واحد.. ومشهد يتكرر في كل مكان
مستشفى الأمير حسين ليس حالة استثنائية، فالمستشفيات العامة في الأردن كلها تشترك في هذا المزيج الغريب من الإرهاق، الضغط، الواسطة، ولكن أيضًا التكاتف الإنساني والاحترام الذي نفتخر به في مجتمعاتنا. هنا، قد تجد نفسك ساخطًا على الأوضاع، ولكنك في نفس اللحظة ممتنٌ لهذا التعاضد الذي يجعل الناس يتعاملون مع بعضهم وكأنهم يعرفون بعضهم منذ سنوات. قد يكون النظام متعبًا، ولكن الروح الإنسانية لا تزال تحاول الصمود وسط كل شيء.
ورغم كل الملاحظات، لا بد من تحية خاصة لأولئك الذين يعملون بإخلاص، ويواصلون تقديم العناية رغم قلة الإمكانيات. فهم الجنود المجهولون الذين يحاولون إنقاذ الأرواح وسط هذا الزحام، وهم الوجه الجميل الذي يجعلنا نتمسك بالأمل، حتى ونحن ننتظر دورنا في طابور طويل أمام غرفة الطبيب.
0 تعليق