وكشف الرحالة والمستشرقين عن إعجابهم وتأملهم العميق في ثراء وتنوع الموروث الحضاري والتاريخي للمملكة، وما تنطوي عليه من أسرار ونوادر وأخبار، خلاف الانطباعات التي كتبها مجموعة من أوائل وأبرز الرحالة والمستشرقين عن الجزيرة العربية، ومختلف مناطق المملكة، ورصدتها عدد من المصادر الثقافية والتاريخية.
إنتاج أدبي
أسهم الإنتاج الأدبي للمستشرقين، ممن حظوا بفرصة زيارة الجزيرة العربية منذ انفتحت أبواب الصحراء لاستقبال وفود الزائرين، بغض النظر عن أهداف تلك الزيارات، في الدفع بأمواج من المتطلعين لإرضاء فضولهم وشغفهم وإثراء معلوماتهم بشأن هذه المنطقة التي بقيت لعقود طويلة طيّ الغموض والجهل بها.
وتأثرت طبيعة الرحلات الاستكشافية بالإمكانات المتاحة لكل عصر، فهناك من الرحالة من اكتفى بكتابة مذكراته ومشاهداته وتأثير السحر الذي تركته المنطقة في وجدانه في مرحلة متأخرة من الزمن، وآخرون وثقوا رحلتهم ومرئياتهم بعدساتهم الشخصية والكاميرا التي تركت ذاكرة زاخرة باللقطات النادرة وأسعف أهل المنطقة أنفسهم بحصاد رحلته الثرية.
وتعد مكة المكرمة والمدينة المنورة من أكثر المواقع تصويرًا لدى الباحثين من المستشرقين، لمكانتهما الدينية، وتقدم طرائق المعيشة فيهما، وقد وثق المستشرقون المواقع في الأماكن المقدسة والمباني، وشكل الحرمين المكي والنبوي قبل 150 عامًا بصور واضحة ونقية.
موطن الحضارات
تعد الجزيرة العربية موطن الحضارات، ومهبط الأديان، ومصدر الإمداد الحضاري والروحي للإنسان، والتي سحرت الرحالة والمستشرقين، وتمثل كتابات الرحالة عن الجزيرة العربية موضع اهتمام كثير من الشعوب والباحثين، لتميزها بالحضارات القديمة، واعتبارها ملتقى الطرق التجارية، ونقطة اتصال مهمة مع الحضارات الأخرى، وهمزة وصل تربط كل القارات، وحظيت معها بسجل تاريخي فريد.
وأسهم وجود المدينتين المقدستين، والتنافس الأوروبي، وقيام الدولة السعودية وامتدادها، وتأسيس المملكة العربية السعودية، والمعالم التاريخية، والمناطق الأثرية، في تعزيز عوامل الجذب للرحالة والمستشرقين، وإصدار الدراسات عنها، حيث استطاع أبناء الجزيرة العربية تغيير وجه الأرض كليا.
تغيير الصورة
ترسخت صورتان للجزيرة العربية في نفوس الرحالة العرب، تمثلت في: صورة براقة متخيلة وموغلة في القدم، وصورة مظلمة محسوسة يجسمها الواقع، حيث كانت الصورة الأولى منتزعة من كتب السير، والتاريخ، والشعر القديم، والصورة الثانية مستقاة من التجربة والمشاهد، حيث لاتخلو آثار الرحالة العرب الذين زاروا الأراضي المقدسة وبعض مناطق الجزيرة العربية الأخرى في أوائل هذا القرن، من الصورة الرومانسية العاطفية الخلابة، والصورة الواقعية المتجهمة، حيث كان التناقض حادًا بين الصورتين في أواخر العهدين العثماني والهاشمي، ومما ساعد على تعميق هذا التناقض في أذهان الرحالة العرب عوامل عدة ممثلة في: الجهل بأوضاع الجزيرة العربية، وتأخر بلدان الجزيرة العربية اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا عن معظم البلدان الأخرى، ففي الحجاز في أواخر العهد التركي حتى أوائل العهد السعودي كان الاعتماد على الحج في الموارد الاقتصادية، والأوقاف، والصدقات، والتي تغيرت بتغير الظروف والأحوال، إلى جانب 3 صور أخرى متناقضة جسدها الرحالة العرب تمثلت في: صورة البدوي، وصورة الحاكم، وصورة الحضري المثقف.
بطل فارس
غير الملك عبدالعزيز الصورة المنفرة للبدوي التي ظلت راسخة في أذهان الرحالة العرب والمستشرقين، إذ جعله مواطنًا صالحًا يدين للدولة، ويحترم النظام، وزرع العقيدة في نفسه، وجعله جنديًا مخلصًا للذود عن أرضه، وربطه بالأرض، وإشاعة الأمن والعدل، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وقدم الرحالة أمين الريحاني صورة مختلفة لـ«السلطان» الملك عبدالعزيز آل سعود حين التقى به للمرة الأولى في النفود بين العقير والأحساء، عبارة عن صورة تمتزج فيها ملامح الصحراء بملامح البطل الفارس، واندهاشه بتواضعه الجم، وبساطته، وكرم ضيافته، متسائلا باستغراب بعد مروره بتجارب سابقة مع الحسين والإدريسي والإمام يحيى، مؤكدًا أن شخصية الملك عبدالعزيز تتمتع بالذكاء الفطري، وأنه لماحًا، ويملك فراسة نافذة، والنظرة العلمية الدقيقة في جمع المعلومات، واستقصاء الأخبار عن الأغراب الذين يفدون إليه من كل حدب وصوب، وأعجب الريحاني بالملك عبدالعزيز، ولمس مقدار العدل الذي حققه في نطاق الشريعة الإسلامية التي لا تعرف الانحياز ولا المحاباة.
والتقى شكيب أرسلان بالملك عبدالعزيز بعد لقاء الريحاني بالمؤسس سنة 1930، حيث وجد فيه الملك الأشم الأصيد، الذي تلوح سيماء البطولة على وجهه، والعاهل الصنديد الأنجد الذي كأنما قد لبس ثوب استقلال العرب الحقيقي، وتفاؤله خيرًا في مستقبل الأمة، إلى جانب التقاء محمد حسين هيكل بالملك عبدالعزيز مرتين خلال رحلته التي سجلها في منزل الوحي سنة 1936، معبرًا عن إعجابه به وإعجاب الاخرين، ولاسيما في مسألة الأمن التي كانت من المسائل الرئيسية والملحة في الأراضي المقدسة، والتي استطاع الملك عبدالعزيز حلها بشكل حاسم ومشرف، إلى جانب إعجاب الكثيرين من المفكرين العرب والأجانب بالبطل العظيم، والزعيم الفذ، والذي نعته الألماني فيزل بـ«سمرك الشرق»، فالوحدة التي حققها الملك الراحل خلال الثلث الأول من هذا القرن بين أقطار الجزيرة العربية «نجد والحجاز، والأحساء، وتهامة عسير»، كانت فريدة وخطوة رائدة، وارتباط اسمه عند بعض الكتاب الذين تحدثوا عن سيرته وأعماله بأسماء الأبطال الوحدويين، ومقارنته بالزعماء الوطنيين والقوميين في أوروبا في القرن التاسع عشر.
الحضري المثقف
لم يكن حال التعليم في مكة والمدينة آخر العهد العثماني يساعد على ظهور طبقة متميزة من المتعلمين أو المثقفين، ففي منطقة الحجاز لم تتغير الأمور بشكل منتظم وملحوظ إلا بعد الوحدة التي حققها الملك عبدالعزيز للمناطق المتناثرة، والذي تحدث فيه الرحالة عن بعض المثقفين المحليين والعرب، ومن أمثلة ذلك ما قاله إبراهيم رفعت عن الشيخ سليمان بن عبدالله البسام وكيل أمير نجد في مدينة جدة، حيث أتحفهم بضيافته، ولذيذ حديثه وشعره، وحديث الزركلي عن الشيخين عثمان قاضي، وعبدالله كمال، حيث يقول عن القاضي: إنه من أدباء الطائف، وقرأ له قصيدة يرحب فيها بالأمير زيد عند عودته من إيطاليا إلى مكة المكرمة، وحديثه عن القاضي عبدالله كمال: إنه أفقه من في الطائف، وأعلمهم بالأدب وفنونه، موردًا أنموذجًا من شعره إذ يقول:
ترفق أيها الحمادي
وعج بي نحوهم عج بي
كرام قد عهدناهم
بذاك السفح والشعب
أريج المسك رياهم
وريح المندل الرطب
وحديث الزركلي عن الشيخ صبحي الحلبي الذي يعد من أدباء الطائف، وحديث الريحاني عن نادي الصلاة في جدة، واصفًا أعضاؤه بالحكماء، وهم: الحاج زينل، وعلي رضا، والحاج عبدالله رضا منشئ المدرسة العمومية في جدة، والشيخ محمد نصيف، والشيخ سليمان قابل رئيس البلدية، وشقيقه عبدالقادر، والشيخ محمد الطويل، والملا حسين الشيرازي وغيرهم، وقال الريحاني عن محمد نصيف أنه أديب جدة الأكبر وأمين الكتب فيها، وأعجب الرحالة أحمد حسين في زيارته إلى المملكة سنة 1948 بالأمير سلطان بن عبدالعزيز إعجابًا شديدًا، ويعتبره في طليعة الشباب المثقف، والمتطلع إلى التخلص من الجمود والتخلف، وحرصه على اقتناء الكتب، ومتابعته للفكر الجديد، وتطلعه إلى العلم والمعرفة.
عاصمة العلم
مثلت مكة المكرمة عاصمة العلم والأدب والصحافة، ومثل شبابها شباب المملكة المتعلم المتنور، من خلال حرصهم على القراءة الجادة، ومتابعة ما تنشره المطابع في البيئات العربية المتقدمة آنذاك، وطموحهم إلى تحقيق حياة عصرية حديثة يجارون فيها الأمم المتقدمة، وعدم تفريطهم بما يتميزون به من قيم ومبادئ حسب وصف هيكل لهم قائلا: وصبوة شباب مكة للحياة الحديثة قوية آخذة بنفوسهم، تدفعهم إلى تتبع ما يكتب ويقال عن الحياة، مستشهدا بحافظ وهبة الذي كان مديرا للتعليم في الحجاز سنة 1930، وما لقيه في سبيل إصلاح التعليم، ووقوف الملك عبدالعزيز معه ضد المتنطعين.
ثقافة سعودية
لم تجد الثقافة في العهد السعودي من الرحالة العرب من يهتم بها الاهتمام الكافي، حيث كانت معظم الأسماء التي ذكروها في أعمالهم، أسماء لبعض الأدباء العرب، ولم يذكروا سوى النزر القليل من الأدباء المحليين، مع أن تلك الفترة كانت تعج بأسماء الأدباء والشعراء السعوديين من أمثال: ابن عثيمين، وابن بليهد، والغزاوي، والعواد، وحمزة شحاتة وغيرهم، والغريب أن أحدًا من أولئك الرحالة لم يذكر شيئا عن صحافة تلك الفترة، وقد كانت الوعاء الوحيد للأدب والثقافة، لعدم تيسر طباعة الكتب، وقد كانت صحيفة «أم القرى» في أوج تألقها عند وصول أرسلان والمازني، وأضيفت إليها «صوت الحجاز» أثناء رحلة هيكل، أما في أثناء رحلات عبدالوهاب عزام وبنت الشاطئ، فقد كانت البلاد تعيش نهضة صحفية رائعة، وذلك بتلاحق صدور الصحف والمجلات من أمثال «المنهل» و«البلاد السعودية».
أساليب التصوير
للرحلة قيمة أدبية ومذاق جمالي ممتع إلى جانب ما يمكن أن تحتفظ به من قيمة تاريخية أو توثيقية، وذلك لأن الرحلة تختلف عن الكتاب التاريخي الذي يعنى بالحقائق فقط، أو يحاول تقديم صورة موضوعية مجردة عن الميول الذاتية، ومع أن في الرحلة الكثير من الحقائق، إلا أنها لا تخلو من الانطباعات الشخصية والانفعالات التي تمليها الظروف والمواقف المتباينة، والفرق بين المؤرخ والرحالة أن الأول يستقي معلوماته في غالب الأمر من المستندات والوثائق والكتب، بينما يستقيها الثاني من التجوال والتأمل والاستماع والمشاهدة، بل إن في الرحلات القديمة الكثير من آثار الخيال والأسطورة والأسلوب القصصي، مما جعل بعض الباحثين المحدثين يؤكد «أنها خير رد على التهمة التي طالما اتهم بها هذا الأدب (العربي)، ونقصد تهمة قصوره في فن القصة»، ويقول اغناطيوس كراتشكوفسكي عن الأدب الجغرافي العربي إنه فريد في غناه وتنوعه ولا يضاهيه أدب أي شعب من الشعوب، فإلى جانب جديته وصرامته «نلتقي فيه بنماذج فنية رائعة صيغت بالسجع أحيانًا في المصنفات الموضوعية من أجل جمهرة القراء، يتراوح فيها العرض بين الجفاف والصرامة من جهة، والإمتاع والحيوية من جهة أخرى، ونجد في الرحلات العربية الحديثة شيئًا من هذا التنوع والغنى الذي تحدث عنده الباحثون في الرحلات القديمة، مع التسليم بطبيعة الحال بفارق العصر والظروف والمزاج، كما أن الرحلات تختلف باختلاف كتابها وأهدافهم، فنجد أن رحلات الحج والزيارة تهتم بالطرق والأمن والمناسك والآثار الإسلامية، بينما تهتم الرحلات السياسية بالحكام والمسؤولين والقضايا العامة، أما الرحلات الصحفية فتهتم بالمناسبات والغرائب والإثارة، على أن معظم أصحاب الرحلات التي ذكرناها هم من الأدباء المشهورين والمعروفين بآثارهم في الشعر والقصة والمقال، فلا غرو أن تحمل رحلاتهم الكثير من سمات الإبداع والجمال، وأن تعكس أيضًا بعض ما نعرفه من ملامح أعمالهم السابقة.
ومع أن الأسلوب التقريري المباشر لا تكاد تخلو منه أي رحلة من الرحلات - وهو الأسلوب الذي يستخدم غالبًا في سرد الأرقام والحقائق المجردة - إلا أننا نستطيع أن نقول: إنه الأسلوب السائد في الرحلات العلمية، مثل رحلة هيكل، وكذلك في الرحلات الرسمية، كرحلتي رفعت والبتنوني، وقد كتبها الأول باعتباره أميرًا للمحمل المصري، وكتبها الثاني باعتباره مرافقا للخديوي، أما رحلات الريحاني والمازني والزركلي وبنت الشاطئ، وأرسلان، فكثيرًا ما تمتزج فيها الطريقة التقريرية المحايدة بالطريقة الأدبية التي تعتمد على التأنق في اللغة والوصف، وإطلاق العنان للعاطفة والخيال، وهذه الطريقة الأدبية هي في الحقيقة ما يعطي لرحلاتهم الكثير من عناصر الحيوية والمتعة.
ملامح رسمها المؤرخين عن شخصية الملك عبدالعزيز
- تواضعه الجم
- بساطته وكرم ضيافته
- شخصية تتمتع بالذكاء الفطري
- لماح ويملك فراسة نافذة
- نظرته علمية دقيقة في جمع المعلومات
- حقق العدل في نطاق الشريعة الإسلامية التي لا تعرف الانحياز ولا المحاباة
- العاهل الصنديد الأنجد الذي كأنما قد لبس ثوب استقلال العرب الحقيقي
- استطاع حل مشكلة الأمن بشكل حاسم ومشرف
وقفات تاريخية
المملكة موطن الحضارات والإرث التاريخي للرحالة والمستشرقين
مكة والمدينة أكثر المواقع تصورا للرحالة والمستشرقين
دور مؤثر لمكانة المملكة تاريخيًا
تنوع الموروث الحضاري والتاريخي يدهش الرحالة
الجزيرة العربية أيقونة إنتاج أدبي للمستشرقين والرحالة
5 عوامل جذبت رحلة المستشرقين والرحالة للمملكة
شباب المملكة يرسمون صورة الحضري المثقف
الأدباء والشعراء أيقونة الثقافة السعودية
صورتان راسختان للجزيرة العربية في نفوس الرحالة
0 تعليق