صراع القوى الفرنسية يعصف بإدارة ماكرون

صحيفة مكة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
يبدو أن المناخ السياسي في فرنسا وصل إلى مرحلة حرجة، وسط أعاصير تعصف بالأحزاب وتعمق الخلافات داخل وخارج البرلمان حول مستقبل نظام الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي ما زال متمسكا بمبدأ "أنا والفوضى"، بالرغم من شدة الرياح التي تواجهه منذ بداية هذا العام، إذ لم يمض على استقالة حكومة غابرييل أتال 6 أشهر، حتى حُجبت الثقة بداية هذا الشهر عن حكومة ميشيل بارنييه، التي لم تكمل 3 أشهر.

أما اليوم وبعد أن عيّن الرئيس ماكرون الجمعة 13 ديسمبر، فرانسوا بايرو زعيم تيار الوسط رئيسا للوزراء، وكلفه بتشكيل حكومة جديدة، يواجه ماكرون تحديًا لا يقل صعوبة عن التحديات السابقة، وهو إقناع النواب بسياسات تخرج فرنسا من أزمتها الاقتصادية، وتحافظ في الوقت نفسه على أدنى حد من المطالب الاجتماعية، التي يمكن لها أن تعيد الثقة بين المواطنين والدولة، في ظل الصراعات المتواصلة داخل خريطة القوى السياسية، والتي تعد اليوم الأكثر تعقيدا في تاريخ فرنسا.

إن حالة عدم التوافق حول حكومة تقود الجهورية الفرنسية إلى بر الأمان، بسبب رغبة رئيس الدولة في تسمية رئيس وزراء قادر على مواصلة سياساته، وما يقابل ذلك من انقسام في الجمعية الوطنية بين 3 كتل لا يمكن التوفيق بينها وهي تحالف يساري، ووسط متقلص يدعم ماكرون، ومجموعة قومية موسعة بقيادة لوبان، سيجعل من الصعب والمعقد جدا قبول أي حلول للحكومة الجديدة لفرانسوا بايرو حول إقرار ميزانية تتفق عليها الكتل السياسية، وهو ما سيقود المشهد السياسي الفرنسي إلى أزمة ستنعكس بلا شك على الشارع.

نعم، لقد تحرك ماكرون بسرعة وعين رئيس وزراء جديد، لكن هذا التحرك باختيار فرانسوا بايرو لن يُرضي جميع الأطراف، حيث تستغل المعارضة هذه الفرصة لتصعيد الضغوط على ماكرون، في وقت أكد فيه حزب "فرنسا الأبية" اليساري الراديكالي، أنه لن يمنح الثقة لبايرو لأنه لا ينتمي إلى صفوف اليسار.

حتى وإن استمر فرانسوا بايرو وشكل حكومته، وقدم حلولا جديدة لاعتماد ميزانية فرنسا لعام 2025، فإن "عين الرضا عن كل عيب كليلة، ولكن عين السخط تبدي المساويا"، وهذا ما يعكسه عدم وجود أغلبية في الجمعية الوطنية، يمكن من خلالها الوصول إلى حلول متفق عليها، فالانقسام البرلماني في فرنسا هو من قاد وبشكل سريع إلى حجب الثقة عن رئيس الوزراء السابق ميشيل بارنييه، بالرغم من أنه رجل ضليع في مجال المال والاقتصاد، وقدم ميزانية متوازنة، كان يمكن لها أن تجنب فرنسا أزمات مالية، لكن مشروعه رُفض جملة وتفصيلا وحجبت الثقة عن حكومته، على اعتبار أنها القشة التي قصمت ظهر البعير، بسبب سياساتها السابقة في عدد من الملفات.

فقد قدم ميشيل بارنييه مشروعا جديدا للمالية الفرنسية يتناسب مع التحديات الحالية، ويهدف إلى تقليص العجز في الميزانية العامة تدريجيا، من خلال توفير 60 مليار يورو، عبر فرض ضرائب جديدة على الشركات الأعلى أرباحا والفرنسيين الأكثر ثراء بقيمة 20 مليار يورو، وخفض في الإنفاق العام بقيمة 40 مليار يورو، لكن ذلك قوبل باعتراض من البعض، خاصة أن مستوى الضرائب الحالي في فرنسا يعد من الأعلى.

وعلى الرغم من احتمالية أن تنتهج المعارضة أسلوبا أكثر عقلانية للتوصل إلى اتفاق بخصوص ميزانية الدولة، لا سيما أن زعيمة أقصى اليمين مارين لوبان اعتمدت موقفا إيجابيا في أول ردّ فعل لها على حجب الثقة، إذ إنها أكدت في وقت سابق أنها ستفسح المجال أمام رئيس الحكومة لـ"العمل على بناء ميزانية مقبولة للجميع بشكل مشترك"، فإن الشكوك تحوم حول نجاح إقرار الميزانية من عدمها.

ومع عدم إمكانية اللجوء إلى انتخابات برلمانية جديدة لحل الوضع السياسي المتوتر، حيث تحظر المادة 12 من الدستور حل البرلمان خلال عام من آخر انتخابات، فإن هناك سيناريوهات محتملة يمكن الأخذ بها لتجنيب فرنسا الوقوع في مأزق يفتح أبواب الجحيم عليها اقتصاديا واجتماعيا، إذا ما اعتمد البرلمان ميزانية 2025م.

يأتي على رأس ذلك تقديم الحكومة الجديدة لفرانسوا بايرو مشروعا جديدا للميزانية يُقنع جميع الأطراف، لكن الوقت ليس في صالحها للعمل على ذلك، وتقديمه بشكل مرضٍ للكتل الفرنسية في الجمعية الوطنية، ما يجعل الوضع السياسي على صفيح ساخن.

أما السيناريو الثاني فهو تدارك الرئيس ماكرون للوضع بتعيين حكومة تصريف أعمال لتجنب الفراغ الحكومي، - ربما يكون ذلك من خلال حكومة فرانسوا بايرو نفسها - وتمديد ميزانية العام السابق لفترة مؤقتة، وهو ما قد يسبب تأخيرات في تنفيذ بعض المشاريع أو الخدمات الحكومية، وصعوبة في معالجة القضايا المالية المعقدة، مثل التضخم المرتفع والسياسات الضريبية لكنها لن تؤدي بالضرورة إلى أزمة اقتصادية كبرى.

وعلى كل حال، فإن ما يجري حاليا في أروقة الحكم الفرنسية، يؤثر سلبا على الاقتصاد الفرنسي، خاصة إذا تأخر إقرار الميزانية، فمخاوف المستثمرين بشأن المالية العامة في تصاعد، يصاحب ذلك ارتفاع في تكاليف اقتراض الدولة مقارنة بأقرانها إلى مستويات لم تشهدها منذ أزمة ديون منطقة اليورو قبل أكثر من عقد.

كما سيتسبب ذلك في إشعال الشارع الفرنسي من تعبئة واحتجاجات وإضراب في صفوف الموظفين، وهو ما يجعل فترة ولاية ماكرون صعبة حتى 2027، فقد تتأثر شعبيته وقد تتصاعد الضغوط عليه من قبل المعارضة والجمهور، فضلا عن عوامل أخرى تزيد من الضغوط مثل التوترات الجيوسياسية والاقتصادية المتزايدة، وما شهدته الأسواق المالية الفرنسية بالفعل من تقلبات، مع ارتفاع عائدات السندات وتعرض اليورو للضغوط.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق