- فـي قوله تعالى: «إن الذين يلحدون فـي آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى فـي النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير»، يُسأل عن كلمة «آمنا»؟
معنى قوله جل وعلا فـي هذه الآية الكريمة «آمنا» أي أنه يكون فـي أمن وأمان فهذا الصنف يقابل الصنف الذي ذكره ربنا تبارك وتعالى ممن يلحدون فـي آياته، ثم بيّن ما توعدهم به، فقال: «أفمن يلقى فـي النار»؟ هذا هو الصنف الذي توعده، بعد أن بيّن حال هؤلاء أو السبب الذي أفضى بهم إلى هذا الوعيد الشديد، فقال: «إن الذين يلحدون فـي آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى فـي النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة» فـ«آمنا» بمعنى أنه فـي حالة من الطمأنينة والأمن والسكون والأمان والاستبشار والبشرى.
وهذا معنى هذه المفردة يقودنا إلى معنى لطيف فـي الآية الكريمة، وإن كان لم يُسأل عنه، وهو أن هذا التقابل فـيه كثير من الدلالات: «أفمن يلقى فـي النار خير أم من يأتي آمنا» فالأول يُلقى بقسوة وعنف، فـيُرمى والعياذ بالله فـي نار جهنم، أما الآخر فإنه «يأتي»، وفـيه معنى السكون والطمأنينة والاستبشار، وكأنه مختار، أما الآخر فإنه يُجر والعياذ بالله بقسوة وعنف، ولذلك قال: «يلقى فـي النار»، كان التقابل اللفظي أن يقال فـي هذا الصنف المقابل له «يدخل الجنة»، ولكن الله تبارك وتعالى بمنّه وفضله أراد بيان عظيم منزلة هؤلاء، بأنهم لا يمسهم سوء، وأنه لا يرهقهم عذاب ولا قطر ولا ذلة، وأن هؤلاء المؤمنين الأتقياء فـي مأمن من كل ذلك، فهم بعيدون كل البعد -بفضل الله تبارك وتعالى- عن كل ما يمكن أن يصيبهم بكدر أو خوف أو حزن «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم فـي الحياة الدنيا وفـي الآخرة ولكم فـيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فـيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم».
فهؤلاء الذين يكرمهم الله تبارك وتعالى بهذا الإكرام، لا يصيبهم شيء من العنت أو الخوف أو الحزن، هم فـي مأمن وأمان، لأن الله تبارك وتعالى أكرمهم بمنّه وفضله، فكانوا فـي مقابل هذه الصورة، ولذلك، فهذا التقابل لم يكن تقابلا لفظيًّا فحسب، وإنما كان تقابلًا معنويًّا يحمل كل هذه الدلالات: أولئك يُسحبون، يُجرّون بعنف وقسوة، وفـي معاناة ومكابدة حتى يُطرحوا فـي نار جهنم والعياذ بالله، وهؤلاء فـي غاية الإكرام، لا يمسهم شيء مما يصيب أولئك لا يصيبهم كدر، ولا خوف، يكرمهم الله تبارك وتعالى، يأتون آمنين مطمئنين مستبشرين فضلًا من الله تبارك وتعالى عليهم، إذن هذا هو معنى هذا الجزء من الآية الكريمة، وفـيه هذا المعنى اللطيف، والله تعالى أعلم.
- فـي قوله تعالى «يلحدون فـي آياتنا» هل هي الآيات التي نتلوها فـي المصحف، أم دلائل الخلق؟ وما معنى الإلحاد فـيها؟
الإلحاد هو الميل والعدول عن الشيء هذا هو المعنى اللغوي فـي أصل معنى الحد وبعضهم يقول بأن الثلاثي أيضًا لا حَدا يأتي بنفس المعنى، وهو معنى الميل والانحراف والعدول عن الشيء، ولذلك، يسمى اللحد «لحدًا» لأنه شق يُمال به فـي الأرض ويكون فـي جانب القبر يسمى اللحد، وهكذا هو معنى الإلحاد، فهو الميل والانحراف والعدول عن الصراط المستقيم.
الآيات قيل بأنها الدلائل والشواهد التي نصبها الله تبارك وتعالى لهم فـي كل ما كان فـيه حجة على وحدانيته سبحانه وتعالى مما ذكر فـي الآية فـي السورة الكريمة فـي سورة فصلت، أو مما نصبه لهم فـي غيرها من المواضع من السور وقيل بأنها آيات القرآن الكريم، وهؤلاء الذين يقولون بأن الآيات هي آيات القرآن الكريم، فإنهم يحملون معنى الإلحاد فـي الآيات بمعنيين: معنى التحريف والتبديل، ومعنى التأويل الفاسد الباطل الذي يخرجون به عن المعنى الصحيح المقبول للآيات الكريمات فـي كتاب الله عز وجل.
والصحيح أن كل ذلك مشمول، فأولئك الذين يلحدون فـي الآيات الظاهرات التي نصبها الله تبارك وتعالى حجة ودليلا على وحدانيته وعلى حقه فـي العبادة، وعلى ألوهيته جل وعلا، كما تشمل أيضًا آيات الكتاب العزيز لأنها حجج وبراهين فـي القرآن الكريم أقامها الله عز وجل على عباده للاهتداء إليه وللإيقان بأن هذا القرآن لا يمكن أن يكون إلا من عند الله تبارك وتعالى الخالق القادر المدبر لما فـي هذا الكون، وأن الإلحاد فـي هذه الآيات يشمل الزيغ والضلال والانحراف والعدول عن كل ما كان صراطًا مستقيمًا فـيها، والله تعالى أعلم.
- لو أطلنا الحديث فـي هذا الموضوع قليلا عندما نقرأ هذه الآية فـي سياقات أخرى، يمكن أن تقرأ فـي سياق التعددية الفكرية والدعم لمبدأ «لا إكراه فـي الدين»، وأن الله تعالى أوكلهم إلى ما يعملون فـي حياتهم؟ لكن ماذا نقول بالنسبة للذين يصادرون حرية التفكير، مثلًا فـي داخل السياق الإسلامي نفسه؟ يصادرون حق الإنسان فـي اختيار اختيارات معينة فـي داخل الدائرة الإسلامية، ويتهمونه بالتكفـير أو التبديع أو التفسيق أو الانحراف، رغم أن الآية تشير إلى خلاف ذلك؟
الآية فـي الحقيقة تنصب الحقائق «لا تكرهوا أحدًا»، وإنما تبين عاقبة ما يؤول إليه حال من يسلك طريقًا، فإن اختار طريق الحق والإيمان والاستجابة لدواعي البراهين والحجج الماثلة أمامه، فإنه يكون من الصنف الذي يأتي آمنا يوم القيامة، وإن اختار طريق الزيغ والضلال والانحراف، والعدول بتأويلات باطلة، أو بتحريف وتبديل، أو بإعراض وإنكار، فإن الآية تبصره أيضًا بالمآل الذي ينقلب إليه، لأجل أن يكون على بينة، ومحجة واضحة بيضاء، لا غبش فـيها فـيكون ما يختاره بأمانة ومسؤولية، مفضيًا إلى نتيجة عرف بها واطلع عليها.
ولذلك فإن هذه الآية الكريمة فـيها وعيد وتهديد هذه الصيغة، لما يأتي ربنا تبارك وتعالى قائلا: «إن الذين يلحدون فـي آياتنا لا يخفون علينا» هنا يخاطب العقل، والقلب، يخاطب الروح، لأنه جل وعلا هو الخبير البصير، هو المطلع على خفايا العباد، فـيذكرهم بأنه مطلع على ظواهرهم وبواطنهم، على حقائقهم وسرائرهم، «لا يخفون علينا».
وفـي هذا تذكير أيضًا لهم بأن يتذكروا هذه الحقيقة، وأن يستصحبوا مراقبة الله عز وجل لهم، واطلاعه جل وعلا على كل ما تكنه أنفسهم، وما يبدونه، ثم يأتي فـي آخر الآية الكريمة ويقول: «اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير» مرة أخرى يجعل القرار إليهم فـي الاختيار بإرادة حرة، على أن يتحمّلوا عواقب ما يختارونه فالإنسان جعل الله تبارك وتعالى له إرادة، نصب له الحجج والبراهين، وخاطب فـيه كوامن هذه النفس، وخاطب فـيه عقله وقلبه وجوارحه، لأجل أن يستجيب للحق، وأن ينقاد له، فإن اختار غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه هذا هو المبدأ الذي تقرره الآية الكريمة.
وأن المسلمين انحرفوا عما تحمله هذه الآية الكريمة، أو عما هو فـي حقائق هذا الدين، من أن عليهم واجب التبليغ والبيان، وبعث رسالة الحق فـي الناس وفـي العالمين، وأن ما كان مما فـيه سعة رأي، ومجال للنظر مما يحتمله الحق، ومما هو من فروع هذا الدين، ولكنهم مع ذلك ضاقوا نفوسًا، وأعملوا هذه الأوصاف فـي غير محالها، حصل ذلك منهم، لكن هذا لا يمكن أن يعاتب به مجموع هذه الأمة، ولا العدول من علمائها أما ما يتعلق بالزيغ عن الحق والانحراف عن الصراط المستقيم مما أشارت إليه الآية الكريمة، أو مما يحتمله معنى الآية الكريمة من الإلحاد فـي آيات الله تبارك وتعالى، فهذا لا يمكن إلا أن ترد مزاعمه، وأن تبين أباطيله، وأن يحاور، ويكشف عواره وأن تنصب الأدلة على قائديه، وأن يدعى هؤلاء الذين يتبنون ما يمكن أن يزيغ بهم عن الصراط المستقيم، أن يدعو إلى اتباع الحق بمختلف الوسائل والحجج».
هذا من واجب المسلم على أخيه المسلم، لأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولأنه من الانتصار لدين الله تبارك وتعالى، ولأن فـيه سدا لأبواب النيل من هذا الدين والطعن فـيه، فهو ابتلاء لهؤلاء قبل أن يكون ابتلاء لأولئك الذين يستجيبون لمزاعم الإلحاد وقبول الشبهات، «والزعم بأن فـي مثل هذه القضايا والحقائق الإيمانية الحقة، أن فـيها مجالا للقبول والأخذ، لا بل قبل أن يكون هذا بناءً عليهم، أو فتنة، وابتلاءً لهم، هي أيضًا فـي الوقت ذاته، ابتلاء لعموم المسلمين، كيف يصنعون حينما يتنقص دين الله تبارك وتعالى، حينما تثار مزاعم أو شبهات، وحينما يدعى حول هذا الدين أباطيل وأراجيف.
ولا سيما فـي وقتنا المعاصر، مع كثرة وسائل التواصل، ومع ضعف الحصانة العلمية الدينية عند طائفة غير يسيرة من شباب المسلمين، فهنا لا بد أن يقوم المسلمون بواجبهم كل بما يستطيع، نصرة للحق، ودعوة للحق، وبيانًا للباطل، وردًا لهذه الشبهات، وكشفًا لزيدي لزيف هذه الأباطيل، وأن يستعملوا فـي تحقيق هذه الغايات، كل الوسائل المتاحة الممكنة، والله تعالى المستعان.
0 تعليق