لم يعد الضرر الذي يسببه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضررًا عابرًا يمكن إصلاحه بانتخابات قادمة أو حتى بأخرى تليها؛ فالتصدعات التي أحدثها قد تحتاج إلى جيل كامل أو أكثر لمعالجتها.
لفهم حجم الخلل الذي باتت تعانيه الولايات المتحدة في ظل ولاية ترامب، قد يكون من المفيد العودة إلى حقبة الحرب الباردة. آنذاك، رغم الخلافات الحادة بين الجمهوريين والديمقراطيين بشأن كيفية التعامل مع الاتحاد السوفيتي، سواء فيما يتعلق بالإنفاق العسكري أو ضبط التسلح أو التدخل في النزاعات التي تخص حلفاء موسكو، إلا أن ذلك لم يكن يمس الثوابت الكبرى.
فعلى مدار عقود، ظل الحزبان متفقين على أهمية حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وعلى اعتبار الاتحاد السوفيتي تهديدًا وجوديًا للأمن القومي الأمريكي، وتمسكا معًا باستراتيجية الاحتواء، بهدف كبح جماح التوسع السوفيتي والاستبداد الذي يمثله.
لم يكن واردًا في أي انتخابات أمريكية أن يُعرض على الناخبين خيار بين مرشح يدعم الناتو وآخر متعاطف مع المعسكر السوفيتي. مجرد ورود الفكرة كان مستحيلا. فالانتخابات قد تغيّر السياسات، لكنها لم تكن تهدد التحالفات أو الهوية الوطنية الأمريكية.
لكن اليوم، ومع ترامب، بات ذلك ممكنًا.
ففي مشهد غير مسبوق شهدته أروقة البيت الأبيض مؤخرًا، شن ترامب ونائبه جي. دي. فانس هجومًا مفاجئًا على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وأمام عدسات التلفاز اتهم فانس زيلينسكي بعدم الاحترام، بينما وجه ترامب سهامه نحوه قائلًا: «أنت تغامر بحياة الملايين، وتفتح الباب أمام حرب عالمية ثالثة، وما تفعله ينطوي على قلة احترام لهذا البلد الذي منحك من الدعم أكثر مما يعتقد البعض أنه يستحق».
لكن هذه الواقعة لم تكن سوى محطة جديدة في مسلسل عداء ترامب لحلفاء الولايات المتحدة. فالرئيس السابق، العائد إلى سدة الحكم، وجّه رسالة صادمة للشركاء الاستراتيجيين حول العالم مفادها أن أمريكا قادرة على تبديل مواقفها والاصطفاف مع ألدّ أعدائها، وربما ينتخب الأمريكيون من يتخلى عن التحالفات التقليدية ويقف إلى جانب الأنظمة القمعية والخطرة.
وحتى لو تمكن الديمقراطيون من تحقيق انتصار كاسح في انتخابات منتصف 2026 وأزاحوا الجمهوريين عن البيت الأبيض في 2028، فإن أثر هذا الدرس سيبقى حاضرًا. إذ بات واضحًا أن استقرار التحالفات الأمريكية مرهون بنتائج الانتخابات، وأن الوعود قد لا تصمد أكثر من ولاية رئاسية واحدة.
في ظل هذه الحالة من التقلّب، كيف يمكن بناء إستراتيجية دفاعية طويلة الأمد؟ وكيف يمكن رسم سياسات تجارية مستقرة أو إنجاز دبلوماسية مستمرة؟ فالاتفاقات التي قد تلغى بقرار من إدارة جديدة، هل يمكن أن تظل محل ثقة القوى العالمية؟
بالتزامن مع هذا التحوّل في السياسة الخارجية، قررت إدارة ترامب إلغاء آلاف العقود المخصصة لتمويل برامج مكافحة الملاريا وحملات التلقيح ضد شلل الأطفال وعلاج السل ومراقبة الأوبئة وتقديم الرعاية في مخيمات اللاجئين. وإذا بقيت هذه القرارات سارية، فإن الولايات المتحدة ستتخلى عن شبكة إنسانية عملاقة أنقذت أرواح الملايين.
ولا يختلف المشهد كثيرًا في الشأن الداخلي؛ فحملات الإقالة الواسعة في أجهزة الدولة، والعفو عن حلفاء ترامب السياسيين المدانين، والسعي لإغلاق مؤسسات أنشأها القانون، جعلت السياسة الداخلية رهينة النزوات ذاتها.
كيف لدولة أن تخدم مواطنيها وهي تعيد هيكلة جهازها الإداري كل أربع سنوات؟ وكيف لها أن تغلق وتعيد فتح وكالاتها الحكومية تبعًا لدورات الانتخابات؟
لقد حذّر كثيرون، وأنا من بينهم، من أن ترامب يسعى إلى ما يشبه ثورة دستورية تضع الرئيس في موقع السيادة المطلقة، خارج حدود القانون. ولعل أحداث السادس من يناير كشفت بوضوح عن تعطش ترامب للسلطة واحتقاره الصريح للمؤسسات.
ومع توالي تداعيات أفعاله، ندرك اليوم لماذا حرص الآباء المؤسسون على ألا يكون للرئيس سلطة منفردة. فقد أدركوا خطورة إدارة بلد واسع ومتنوع بقرارات فردية.
وفي هذا السياق، أوصي بالاستماع إلى حديث الباحث يوفال ليفين مع الصحفي عزرا كلاين، الذي أوضح فيه أن الرئيس، رغم انتخابه، لم يُوضع ليكون الممثل الأوحد للأمة. فبلد بحجم الولايات المتحدة لا يمكن أن يمثله شخص واحد، بل مؤسسات تعددية كالكونجرس.
وأضاف ليفين أن «الدستور الأمريكي بُني على قاعدة حكم الأغلبية، مع الحذر من أن تتحول الأغلبية إلى خطر على الأقليات، لذا جاء النظام ليجبر الأغلبية على التوسع والاعتدال قبل أن تمارس سلطاتها».
وحين يعمل النظام كما يجب، يكون التغيير صعبًا وبطيئًا، لكنه أيضًا دائم ومستقر. وهذا أمر إيجابي. تخيلوا لو كان استمرار برامج كبرى مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية مرهونًا بمزاج رئيس واحد!
في الواقع، دور الرئيس الحقيقي هو إدارة المؤسسات التي ينشئها الكونغرس، ورعاية الاتفاقيات التي يقرها مجلس الشيوخ، لا أن يقرر وحده استمرارها أو إنهاءها. وإذا تمكن ترامب من تنفيذ رؤيته، فقد تجد المعارضة الديمقراطية فرصة للعودة، لكن استعادة الاستقرار الوطني لن تكون سهلة ولا سريعة. لهذا السبب، تبقى المعارك القانونية الدائرة الآن شديدة الأهمية. فالمحكمة العليا لا تستطيع فرض دعم ترامب لأوكرانيا، لكنها قادرة على حماية العقود الحكومية، والدفاع عن الموظفين من الفصل التعسفي، ومنع العبث بالمؤسسات التي أُنشئت بقوانين الكونجرس. بكلمات أخرى، يمكنها حماية النظام الدستوري.
ومع ذلك، حين أتحدث عن «النظام الدستوري»، أشعر بأن المصطلح قد يبدو أكاديميًا ومعزولًا عن الواقع. لكن الحقيقة أن ترامب، عبر تقويض هذا النظام، يهدد استقرار الولايات المتحدة نفسها.
لقد وقع الضرر فعلا. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: كم من الانتخابات سنحتاج قبل أن يصدق حلفاؤنا من جديد أننا شريك يمكن الوثوق به؟
وبوصفي محافظًا، لطالما آمنت بمبدأ «سياج تشيسترتون»، الذي يذكّرنا بأهمية معرفة سبب وجود أي نظام قبل التفكير في تغييره أو إزالته. فالتغيير المدروس يتطلب فهم الأسس التي بُني عليها الحاضر.
لكن ما يفعله ترامب الآن لا علاقة له بالحكمة أو الحذر؛ إنه يهدم الأسوار وهو مستمتع دون تفكير. ومع كل مؤسسة يطيح بها، يدمر الثقة. والثقة، حين تنهار، يصعب ترميمها.
ديفيد فرينش كاتب متخصص في قضايا القانون والثقافة والدين والنزاعات المسلحة، وهو من قدامى المحاربين في حرب العراق ومحام سابق في القضايا الدستورية. من مؤلفاته الأخيرة: «إذا انقسمنا سقطنا: تهديد الانفصال في أمريكا وكيفية إنقاذ الوطن».
0 تعليق