ترامب وانتصاراته الوهمية

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تسبب ذلك السيل من التحركات السياسية غير المعهودة التي أعلنها دونالد ترامب خلال الشهر الأول من رئاسته الثانية في جعل الخبراء والمثقفين في حالة من النضال لمحاولة إيجاد نمط يساعدهم في فهم هذا الجنون.

يقول بعض المراقبين إن الأمر كله عبارة عن تكتيك تفاوضي: يبدأ ترامب بالتمسك بموقف متطرف، حتى يتسنى له لاحقا أن يجد المجال لتبادل «التنازلات» مع الطرف الآخر دون التخلي عن أي شيء ذي قيمة. وهم يشيرون إلى كتاب «فن الصفقة» الذي أصدره ترامب عام 1987، والذي يشجع القراء على «الإتيان بتصرفات جريئة أو مثيرة للجدال» (وإن كان لا يوجد أي دليل يضمن أن ترامب قرأ حتى هذا العمل الذي كتبه مؤلف خفي). يتماشى هذا التفسير مع التوصيف الشائع لترامب على أنه زعيم «صفقات» ــ شخص يعقد الصفقات التي تعود بمنافع قصيرة الأجل، دون نظر للاعتبارات الأطول أجلا المتعلقة بالمصداقية، أو الأخلاق، أو الديمقراطية، أو سيادة القانون. لكن الأمر ينطوي على مشكلة واحدة: لقد أظهر قدرا من الوعيد المتهور والتقلبات المتسرعة أكبر كثيرا من أي قدر من الفِكر الاستراتيجي. هذه هي الحال بكل تأكيد مع التعريفات الجمركية ــ وهي أداة يعتبرها ترمب وسيلة مضمونة لإجبار دول أخرى على الرضوخ لإرادته.

في الرابع والعشرين من فبراير، أكد أن التعريفات الجمركية بنسبة 25% على الواردات من كندا والمكسيك «ستطبق في الموعد المحدد» في الرابع من مارس. أعلن ترامب عن الرسوم الجمركية بعد فترة وجيزة من تنصيبه، في الأول من فبراير ، قائلًا إنها ستدخل حيز التنفيذ بعد ثلاثة أيام. ولكن بحلول يوم الرابع من فبراير، قرر تأجيلها لمدة ثلاثين يوما. لذا، هل يكون يوم الرابع من مارس يوم الحساب، حيث تقدم كندا أو المكسيك تنازلات سياسية كبرى وإلا تواجه غضب «رجل التعريفات الجمركية»؟ ليس في الأرجح.

ليس الأمر أن التعريفات الجمركية تنتهك اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا (USMCA)، التي تفاوضت عليها إدارته الأولى، فحسب. بل إن هذه الخطوة المتطرفة ستكون شديدة الإضرار، بمصالح الولايات المتحدة وكذا مصالح الاقتصادات المستهدفة. وفي حين أن مؤيدي ترامب ربما لا يدركون هذه الحقيقة بعد، فمن المؤكد أن كندا والمكسيك تدركانها. لنتأمل هنا صناعة السيارات، التي تتكامل بشكل كبير عبر مختلف أنحاء أمريكا الشمالية. في الأمد القريب، ستتعطل استراتيجيات الشركات واستثماراتها في مرافق الإنتاج بشكل جذري. وفي الأمد البعيد، ستواجه شركات السيارات الأمريكية خسائر كبيرة في الكفاءة ــ على سبيل المثال، لأنها لن تستطيع الحصول على المكونات الكثيفة العمالة بأسعار بخسة من المكسيك ــ وهذا كفيل بتقويض قدرتها التنافسية العالمية.

علاوة على ذلك، لا تملك كندا ولا المكسيك حق تقديم التنازلات التي يطلبها ترامب. فهو بادئ ذي بدء، يطالبهم بوقف تدفق الفنتانيل إلى الولايات المتحدة. لكن معظم الفنتانيل يجلبه مواطنون أمريكيون وليس المهاجرون الذين يعبرون الحدود المكسيكية، وأقل القليل منه يأتي من كندا.

يصر ترامب أيضا على أن تلغي كندا والمكسيك فوائضهما التجارية الثنائية مع الولايات المتحدة. لكن العجز الثنائي هو مجرد مكونات للميزان التجاري الكلي على جانب الولايات المتحدة، والذي يتحدد على مستوى الاقتصاد الكلي (المدخرات الوطنية ناقص الاستثمار). وأي انخفاض في صادرات أي بلد إلى الولايات المتحدة سيؤدي إلى انخفاض مقابل في صادرات الولايات المتحدة إلى بقية العالم، بسبب عوامل مثل انخفاض الدخل الأجنبي، أو ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي، أو التعريفات الجمركية الانتقامية. (وقد ظهرت هذه القوى الثلاث جميعها بعد تطبيق قانون تعريفة سموت-هاولي لعام 1930). لعل هذا يفسر في الأرجح سبب تظاهر ترامب بأن تنازلات حفظ ماء الوجه الـمُـقَـدَّمة قبل الموعد النهائي في الرابع من فبراير ــ أعلنت كندا إنها ستعين مسؤولا خاصا لمكافحة الفنتانيل، وقالت المكسيك: إنها ستنقل بعض القوات إلى الحدود ــ كانت ذات مغزى بما يكفي لتبرير تأجيل فرض التعريفات، حتى برغم أنها لن تخلف أي تأثير يذكر.

ويشير هذا إلى أن ترمب سيفعل الشيء ذاته الأسبوع المقبل. الواقع أننا توصلنا الآن إلى عدم وجود نمط يساعدنا على فهم جنون ترمب. فهو أولا يعلن الحرب، ليبهج أنصاره، حتى برغم أن هذه الإعلانات ــ مثل خططه بشأن جرينلاند أو بنما أو كندا ــ شنيعة إلى الحد الذي يجعلها تبدو في مستهل الأمر وكأنها مزحة. لكنه يلتزم بها، فيتطلب الأمر تعديلا جذريا للتوقعات عندما تبدأ الصدمة الأولية في التلاشي. ولكن عندما تصبح اللاواقعية الباطنية بادية للعيان في نهاية المطاف، فإنه يلجأ إلى ترحيل القرار ويعلن في النهاية النصر، على الرغم من قلة المكاسب الحقيقية. لقد شهدنا هذا من قبل. أثناء فترة ولاية ترامب الأولى، أصرّ على إلغاء اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية «أسوأ صفقة تجارية عُـقِـدَت على الإطلاق»، واستبدالها باتفاقية « USMCA «الاتفاقية التجارية الأكبر والأكثر عدالة وتوازنا على الإطلاق». لكن الاختلافات بين الاتفاقيتين كانت طفيفة.

تضمنت ولاية ترامب الأولى أيضا استخدام الرسوم الجمركية لإجبار الصين على الموافقة على «اتفاق تجاري تاريخي»، أطلق عليه مُـسمى المرحلة الأولى، والذي التزمت الصين بموجبه بشراء ما قيمته 200 مليار دولار من الصادرات الأميركية الإضافية بحلول نهاية عام 2021. لكن هذه المشتريات لم تتحقق قَـط. والأمر لا يتعلق بالتجارة فحسب: فقد هدد ترامب في عام 2017 بـ «إمطار كوريا الشمالية بالنار والغضب» إذا لم تتخل عن برنامجها لتصنيع الأسلحة النووية، ثم تصرف وكأن اجتماعه مع كيم جونج أون في عام 2018 كان انتصارا كبيرا. في حقيقة الأمر، كان الاجتماع تنازلا أمريكيا لطالما رغبت فيه قيادة كوريا الشمالية ــ ومضى كيم في استكمال تطوير صواريخ بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية.

في كل من الحالات الثلاث ــ القمة مع كوريا الشمالية في عام 2018، واتفاقية USMCA في عام 2019، واتفاقية المرحلة الأولى مع الصين في عام 2020 ــ حظيت تراكمات المواجهة الأصلية و«الصفقة» الذروة الناتجة عنها بقدر كبير من الاهتمام العام، لكن الفشل النهائي في التأثير على مسار الأحداث لم يحظ بمثل ذلك الاهتمام.

في وقت حيث يروج ترامب لإنجازاته التي لم تتحقق، تتراكم التكاليف التي تتكبدها الولايات المتحدة ــ بما في ذلك الأضرار التي لحقت بالنظام التجاري الدولي، فضلا عن مصداقية حكومة الولايات المتحدة وقوة أمريكا الناعمة وزعامتها العالمية ــ ناهيك عن التكاليف الكارثية المحتملة التي قد تترتب على الفشل الاستراتيجي مثل القطيعة الوشيكة مع أوروبا. لا يعني هذا أن ترامب لم يحقق «انتصارات» حقيقية. فبإمكانه على سبيل المثال تدمير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، لأن الدائرة السياسية المحلية المعنية بالمساعدة الإنمائية الدولية صغيرة وضعيفة. لكن الملايين من الناس حول العالم الذين سيعانون نتيجة لذلك سيعرفون على من تقع اللائمة، وهنا أيضا، سيتسبب نجاح ترامب في إلحاق ضرر عظيم بأمريكا. هذه ليست استراتيجية.

جيفري فرانكل أستاذ تكوين رأس المال والنمو في جامعة هارفارد، وهو باحث مشارك في المكتب الوطني الأمريكي للبحوث الاقتصادية.

خدمة بروجيكت سنديكيت

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق