تستمر الحرب الروسية ضد أوكرانيا للعام الثالث، ويظهر الأوكرانيون صموداً رغم التحديات. ولكن، مع مجيء ترامب إلى السلطة وتغير موقف الولايات المتحدة، يقترح فريدريش ميرتس إنشاء "معاهدة الحلف الأوروبي" لتعزيز الأمن الجماعي الأوروبي والدفاع المستقل عن الولايات المتحدة، وهو ما يتطلب تعزيز الصناعات الدفاعية والتكنولوجيا النووية، وتحولاً في الدور القيادي الأوروبي بعيداً عن الاعتماد على واشنطن.اضافة اعلان
* * *
في حين يشهد العالم انقضاء عام ثالث على غزو فلاديمير بوتين لدولة جارة لم تشكل أي تهديد لبلاده، حان الوقت للاعتراف بقدرة الشعب الأوكراني على الصمود في معركة لم تنتصر روسيا فيها -على الأقل في ميادين القتال.
وعلى الرغم من الانتكاسات الأخيرة والانعطافة الكارثية التي قامت بها الولايات المتحدة؛ أكبر حلفاء كييف، ما يزال الأوكرانيون صامدين ولم يُهزموا. لم يستمتع الرئيس بوتين بالاستعراض العسكري الذي تخيّله في شوارع كييف، وما يزال الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في السلطة ولم يهرب إلى المنفى.
يفترض في الإنجاز المتمثل في قدرة أوكرانيا على الصمود أن يكون مصدر إلهام لسائر الأوروبيين، وأن يذكرهم بأن الهيمنة الروسية على قارتنا ليست قدراً محتوماً. وبينما تفرض علينا اللحظة الراهنة ضرورة التطلع إلى المستقبل، يبرز في التوقيت المناسب زعيم أوروبي جديد، لا ليقود القارة وحسب، بل ليطرح رؤية واضحة لمستقبلها.
قد لا يكون فريدريش ميرتس الذي يستعد لتولي منصب المستشار الألماني فارساً تيوتونياً بدرع لامع. لكنه، باعتباره زعيم أقوى اقتصاد في أوروبا وآلتها الصناعية التي لا تُنافس، في موقع يؤهله لتقديم القيادة التي افتقدتها القارة منذ رحيل مستشارة أخرى من "الحزب الديمقراطي المسيحي"، أنجيلا ميركل، حتى مع أن نهجه وخلفيته مختلفان.
في المقابل، يعد ميرتس بمثابة النقيض لأمثال دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس. إنه أوروبي واضح الرؤية، ويتميز بواقعية تجعله صريحاً في التعبير عن الحقائق كما هي. كما أنه يتسم بالصدق، بحيث يؤكد أنه "ليست لدي أي أوهام على الإطلاق" بشأن دونالد ترامب الذي "لم يعد يكترث عملياً بمصير أوروبا".
ويبدو أن ميرتس يتمتع بسرعة البديهة التي تميز الساسة الأكثر كفاءة؛ فهو قادر على التفكير بسرعة فائقة والتخطيط مسبقاً لمرحلتين أو ثلاث أو أربع إلى الأمام. وكما يقول، فإنه "من غير الواضح ما إذا كنا سنتحدث عن الـ'ناتو' بشكله الحالي" بحلول موعد انعقاد قمة الحلف في لاهاي في حزيران (يونيو) المقبل.
في حين ما تزال بعض الشخصيات، مثل رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، تأمل في أن تواصل الولايات المتحدة تقديم الضمان الأمني لأوروبا، ويبذل آخرون، مثل رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون، جهوداً للتقليل من أهمية المشهد المتغير، فإن ميرتس هو أول من يدعو زملاءه الأوروبيين إلى مواجهة الواقع المرير المتمثل في أن الولايات المتحدة قد غيرت موقفها.
أصبحت الولايات المتحدة الآن شريكاً لروسيا، بل إنها تميل إلى أن تكون حليفة لها. هذا هو التغيير الذي كنا نخشاه، لكنه أسوأ مما تصورنا. بل إن هناك كلمة ألمانية تعبر عن ذلك: Zeitenwende، التي تعني "نقطة تحول بين العصور".
ومن هنا، يؤكد الواقع الجديد الحاجة الملحة إلى إنشاء مجتمع دفاعي أوروبي جديد، أو الأفضل "معاهدة حلف أوروبي" European Treaty Organisation (ETO) يُنص عليها دستورياً وتنبثق من "حلف شمال الأطلسي" لتكمل دوره -أو حتى لتحل محله. وهذا ليس المسار الذي تفضله القوى الأوروبية لأن أوروبا كانت دائماً أقوى بوجود الولايات المتحدة إلى جانبها. ولكن إذا أقامت واشنطن شراكة مستجدة مع موسكو (سواء كان ذلك منطقياً أم لا من الناحية الجيوسياسية)، فقد لا يكون أمام أوروبا خيار آخر سوى الاعتماد على نفسها.
سيكون محور هذه الفكرة هو مفهوم "الأمن الجماعي"؛ أي الالتزام التعاهدي بأن أي هجوم على دولة واحدة يعد هجوماً على الجميع، وهو مبدأ مستمد من المادة الخامسة في معاهدة شمال الأطلسي. ويمكن أن تشمل "معاهدة الحلف الأوروبي" المتصورة دولًا حليفة من خارج أوروبا، ولكن متوافقة معها في الرؤية، مثل كندا وأستراليا وكوريا الجنوبية واليابان -وربما تركيا. لكن الركيزة الأساسية لها ستكون الدول الأوروبية، سواء داخل الاتحاد الأوروبي أو خارجه.
سيكون من الضروري تخصيص موارد هائلة لبناء صناعات دفاعية وشبكات أقمار اصطناعية وتطوير تكنولوجيا متقدمة، وتحقيق ردع نووي مستقل بالكامل (حيث تمتلكه فرنسا فقط بينما تعتمد المملكة المتحدة على أنظمة الإطلاق الأميركية). كما سيكون من اللازم تعزيز شبكات الاستخبارات والمراقبة، وإنشاء أنظمة قيادة مشتركة تتطور من الهياكل الحالية للـ"ناتو".
من المؤكد أن جميع هذه التحديات اللوجستية هائلة في حد ذاتها، لكن العقبات السياسية التي تنطوي عليها لا تقل أهمية. وكما كان حال تاريخ الـ"ناتو" المستمر منذ 75 عاماً، فإن "معاهدة الحلف الأوروبي" لن تتمكن من الازدهار والاستمرار إلا إذا كان هناك إجماع سياسي واسع عليها داخل كل دولة عضو.
ولكن، وكما هو معلوم، فإن دولاً، مثل المجر وسلوفاكيا، ستكون مترددة في الالتزام بهذا المسار، في حين من المرجح أن يفضل "حزب البديل من أجل ألمانيا" استرضاء روسيا واستعادة تدفق غازها غير المكلف.
سيكون مجرد ذكر "جيش أوروبي" كفيلًا بأن يحدث ردود فعل قوية في أوساط اليمين البريطاني. وإذا كانت دول، مثل إسبانيا وإيطاليا ولوكسمبورغ، تتقاعس عن الوفاء بالتزاماتها تجاه "حلف شمال الأطلسي"، فما الذي سيحفزها على القيام بغير ذلك مع هذه المنظمة؟ وهل ستكون فرنسا على استعداد لوضع قواتها تحت قيادة جنرال بريطاني أو بولندي أو هولندي؟ وأي من الناخبين الأوروبيين سيؤيد تحويل الموارد المالية من برامج الرعاية الاجتماعية إلى الإنفاق العسكري؟ وأخيراً، هل ستكون المملكة المتحدة وفرنسا على استعداد لاستخدام ترسانتيهما النوويتين للدفاع عن دول مثل إستونيا أو مولدوفا -أو حتى ألمانيا؟
من السهل، وربما من الحكمة، أن نشعر بالتشاؤم حيال قدرة الديمقراطية الأوروبية على الدفاع عن نفسها، خصوصاً في ضوء سجلها غير المشجع في القرن العشرين. ومن السهل أيضاً أن نفترض أن قوة الولايات المتحدة وخبرتها يمكن استبدالهما بسرعة أو سلاسة. ولكن إذا رفضت الولايات المتحدة حقاً أن تخوض حروبنا، كما يتضح الآن على نحو متزايد في واشنطن، فلن يكون أمام أوروبا من خيار سوى تولي هذه المسؤولية بنفسها.
إذا ما قررت الولايات المتحدة سحب مظلة حمايتها النووية لنا وإعادتها إلى أراضيها، فسيتعين على "معاهدة الحلف الأوروبي" أن تحل مكانها وتؤدي هذا الدور. وسوف تحتاج هذه المعاهدة الجديدة إلى بناء تحالفات قوية في مختلف أنحاء العالم. وسيعتمد هذا الإطار الجديد على القيم التي لم تعد تتبناها الإدارة الأميركية الراهنة (وهو ما جاء جي. دي. فانس ليخبرنا به)، بالإضافة إلى التركيز على المصلحة الذاتية الواعية.
وأخيراً، لا بد من الإقرار، كما حذرنا فريدريش ميرتس جميعاً، بأنه ليس ثمة بديل آخر أمامنا.
* * *
في حين يشهد العالم انقضاء عام ثالث على غزو فلاديمير بوتين لدولة جارة لم تشكل أي تهديد لبلاده، حان الوقت للاعتراف بقدرة الشعب الأوكراني على الصمود في معركة لم تنتصر روسيا فيها -على الأقل في ميادين القتال.
وعلى الرغم من الانتكاسات الأخيرة والانعطافة الكارثية التي قامت بها الولايات المتحدة؛ أكبر حلفاء كييف، ما يزال الأوكرانيون صامدين ولم يُهزموا. لم يستمتع الرئيس بوتين بالاستعراض العسكري الذي تخيّله في شوارع كييف، وما يزال الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في السلطة ولم يهرب إلى المنفى.
يفترض في الإنجاز المتمثل في قدرة أوكرانيا على الصمود أن يكون مصدر إلهام لسائر الأوروبيين، وأن يذكرهم بأن الهيمنة الروسية على قارتنا ليست قدراً محتوماً. وبينما تفرض علينا اللحظة الراهنة ضرورة التطلع إلى المستقبل، يبرز في التوقيت المناسب زعيم أوروبي جديد، لا ليقود القارة وحسب، بل ليطرح رؤية واضحة لمستقبلها.
قد لا يكون فريدريش ميرتس الذي يستعد لتولي منصب المستشار الألماني فارساً تيوتونياً بدرع لامع. لكنه، باعتباره زعيم أقوى اقتصاد في أوروبا وآلتها الصناعية التي لا تُنافس، في موقع يؤهله لتقديم القيادة التي افتقدتها القارة منذ رحيل مستشارة أخرى من "الحزب الديمقراطي المسيحي"، أنجيلا ميركل، حتى مع أن نهجه وخلفيته مختلفان.
في المقابل، يعد ميرتس بمثابة النقيض لأمثال دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس. إنه أوروبي واضح الرؤية، ويتميز بواقعية تجعله صريحاً في التعبير عن الحقائق كما هي. كما أنه يتسم بالصدق، بحيث يؤكد أنه "ليست لدي أي أوهام على الإطلاق" بشأن دونالد ترامب الذي "لم يعد يكترث عملياً بمصير أوروبا".
ويبدو أن ميرتس يتمتع بسرعة البديهة التي تميز الساسة الأكثر كفاءة؛ فهو قادر على التفكير بسرعة فائقة والتخطيط مسبقاً لمرحلتين أو ثلاث أو أربع إلى الأمام. وكما يقول، فإنه "من غير الواضح ما إذا كنا سنتحدث عن الـ'ناتو' بشكله الحالي" بحلول موعد انعقاد قمة الحلف في لاهاي في حزيران (يونيو) المقبل.
في حين ما تزال بعض الشخصيات، مثل رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، تأمل في أن تواصل الولايات المتحدة تقديم الضمان الأمني لأوروبا، ويبذل آخرون، مثل رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون، جهوداً للتقليل من أهمية المشهد المتغير، فإن ميرتس هو أول من يدعو زملاءه الأوروبيين إلى مواجهة الواقع المرير المتمثل في أن الولايات المتحدة قد غيرت موقفها.
أصبحت الولايات المتحدة الآن شريكاً لروسيا، بل إنها تميل إلى أن تكون حليفة لها. هذا هو التغيير الذي كنا نخشاه، لكنه أسوأ مما تصورنا. بل إن هناك كلمة ألمانية تعبر عن ذلك: Zeitenwende، التي تعني "نقطة تحول بين العصور".
ومن هنا، يؤكد الواقع الجديد الحاجة الملحة إلى إنشاء مجتمع دفاعي أوروبي جديد، أو الأفضل "معاهدة حلف أوروبي" European Treaty Organisation (ETO) يُنص عليها دستورياً وتنبثق من "حلف شمال الأطلسي" لتكمل دوره -أو حتى لتحل محله. وهذا ليس المسار الذي تفضله القوى الأوروبية لأن أوروبا كانت دائماً أقوى بوجود الولايات المتحدة إلى جانبها. ولكن إذا أقامت واشنطن شراكة مستجدة مع موسكو (سواء كان ذلك منطقياً أم لا من الناحية الجيوسياسية)، فقد لا يكون أمام أوروبا خيار آخر سوى الاعتماد على نفسها.
سيكون محور هذه الفكرة هو مفهوم "الأمن الجماعي"؛ أي الالتزام التعاهدي بأن أي هجوم على دولة واحدة يعد هجوماً على الجميع، وهو مبدأ مستمد من المادة الخامسة في معاهدة شمال الأطلسي. ويمكن أن تشمل "معاهدة الحلف الأوروبي" المتصورة دولًا حليفة من خارج أوروبا، ولكن متوافقة معها في الرؤية، مثل كندا وأستراليا وكوريا الجنوبية واليابان -وربما تركيا. لكن الركيزة الأساسية لها ستكون الدول الأوروبية، سواء داخل الاتحاد الأوروبي أو خارجه.
سيكون من الضروري تخصيص موارد هائلة لبناء صناعات دفاعية وشبكات أقمار اصطناعية وتطوير تكنولوجيا متقدمة، وتحقيق ردع نووي مستقل بالكامل (حيث تمتلكه فرنسا فقط بينما تعتمد المملكة المتحدة على أنظمة الإطلاق الأميركية). كما سيكون من اللازم تعزيز شبكات الاستخبارات والمراقبة، وإنشاء أنظمة قيادة مشتركة تتطور من الهياكل الحالية للـ"ناتو".
من المؤكد أن جميع هذه التحديات اللوجستية هائلة في حد ذاتها، لكن العقبات السياسية التي تنطوي عليها لا تقل أهمية. وكما كان حال تاريخ الـ"ناتو" المستمر منذ 75 عاماً، فإن "معاهدة الحلف الأوروبي" لن تتمكن من الازدهار والاستمرار إلا إذا كان هناك إجماع سياسي واسع عليها داخل كل دولة عضو.
ولكن، وكما هو معلوم، فإن دولاً، مثل المجر وسلوفاكيا، ستكون مترددة في الالتزام بهذا المسار، في حين من المرجح أن يفضل "حزب البديل من أجل ألمانيا" استرضاء روسيا واستعادة تدفق غازها غير المكلف.
سيكون مجرد ذكر "جيش أوروبي" كفيلًا بأن يحدث ردود فعل قوية في أوساط اليمين البريطاني. وإذا كانت دول، مثل إسبانيا وإيطاليا ولوكسمبورغ، تتقاعس عن الوفاء بالتزاماتها تجاه "حلف شمال الأطلسي"، فما الذي سيحفزها على القيام بغير ذلك مع هذه المنظمة؟ وهل ستكون فرنسا على استعداد لوضع قواتها تحت قيادة جنرال بريطاني أو بولندي أو هولندي؟ وأي من الناخبين الأوروبيين سيؤيد تحويل الموارد المالية من برامج الرعاية الاجتماعية إلى الإنفاق العسكري؟ وأخيراً، هل ستكون المملكة المتحدة وفرنسا على استعداد لاستخدام ترسانتيهما النوويتين للدفاع عن دول مثل إستونيا أو مولدوفا -أو حتى ألمانيا؟
من السهل، وربما من الحكمة، أن نشعر بالتشاؤم حيال قدرة الديمقراطية الأوروبية على الدفاع عن نفسها، خصوصاً في ضوء سجلها غير المشجع في القرن العشرين. ومن السهل أيضاً أن نفترض أن قوة الولايات المتحدة وخبرتها يمكن استبدالهما بسرعة أو سلاسة. ولكن إذا رفضت الولايات المتحدة حقاً أن تخوض حروبنا، كما يتضح الآن على نحو متزايد في واشنطن، فلن يكون أمام أوروبا من خيار سوى تولي هذه المسؤولية بنفسها.
إذا ما قررت الولايات المتحدة سحب مظلة حمايتها النووية لنا وإعادتها إلى أراضيها، فسيتعين على "معاهدة الحلف الأوروبي" أن تحل مكانها وتؤدي هذا الدور. وسوف تحتاج هذه المعاهدة الجديدة إلى بناء تحالفات قوية في مختلف أنحاء العالم. وسيعتمد هذا الإطار الجديد على القيم التي لم تعد تتبناها الإدارة الأميركية الراهنة (وهو ما جاء جي. دي. فانس ليخبرنا به)، بالإضافة إلى التركيز على المصلحة الذاتية الواعية.
وأخيراً، لا بد من الإقرار، كما حذرنا فريدريش ميرتس جميعاً، بأنه ليس ثمة بديل آخر أمامنا.
*شون أوغرايدي: Sean OGrady: مساعد رئيس التحرير في صحيفة "الإندبندنت" البريطانية.
0 تعليق