ترجمة - قاسم مكي -
تبنَّت إدارة ترامب وجهةَ النظر التي ترى أن الولايات المتحدة ضحية فوائض التجارة الخارجية وتحاجج بأن النظام التجاري العالمي أضر بالمجتمع. أما العلاج فهو الرسوم الجمركية.
لكن الرسوم وحدها لن تقلل العجز التجاري أو تستعيد الوظائف الصناعية. وما هو أسوأ أنها تهدد بصرف الانتباه عن المصادر الحقيقية للمشاكل الاجتماعية التي تعاني منها أمريكا والسياسات التي يمكن أن تساعد في التخلص منها.
الميزان التجاري ليس هو الملمح الحاسم للأداء الاقتصادي. فمثلا تسجل الولايات المتحدة عجزًا تجاريًا سنويًا في الحساب الجاري منذ عام 1981 في حين تسجل ألمانيا واليابان فوائضًا. تفعل ألمانيا ذلك منذ عام 2002 واليابان منذ عام 1981. مع ذلك تتفوق الولايات المتحدة عليهما بانتظام في النمو الاقتصادي. (يحدث العجز التجاري عندما تكون قيمة واردات بلد ما من السلع والخدمات أكبر من صادراته - المترجم.) قياسا بالدولار الدولي شهد الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد في الولايات المتحدة نموا بلغ في المتوسط 1.8% في الفترة بين 1980 و2023.
وفي ألمانيا واليابان كان 1.4% و1.5 على التوالي. هذه الاختلافات الطفيفة تتراكم بمرور الوقت. ففي عام 1980 كان الدخل الحقيقي للفرد في الولايات المتحدة مساويًا تقريبًا لدخل الفرد في ألمانيا وأعلى بنسبة 46% في اليابان. وفي عام 2023 كان في الولايات المتحدة أعلى بنسبة 19% من دخل الفرد في ألمانيا و61% من دخل الفرد في اليابان.
بالطبع لا تتحول الإنتاجية تلقائيا الى «سعادة» ولدى الأمريكيين سبب وجيه لعدم الرضا. فقد حدث انفجار في اللامساواة وفقد العاملون وظائف مجزية في قطاع الصناعة التحويلية وحدث ركود في الأجور الحقيقية ومتوسط أعمار غير الحاصلين على شهادات جامعية أقل.
من الصعب حل هذه المشاكل بفرض ضرائب على الواردات حتى إذا تم تعزيزها برفع قيودٍ تنظيمية وإعفاءاتٍ ضريبية. فالرسوم الجمركية لن تكون لها آثار حاسمة حتى على الميزان التجاري والتوظيف في القطاع الصناعي.
الميزان التجاري يساوي ما ينتجه الاقتصاد ناقصًا إجمالي الإنفاق على الاستهلاك والاستثمار.
لذلك هو مرتبط بالإنتاج والتوظيف في قطاع الصناعة التحويلية. وهذا ليس لأن المزيد من الاستيراد يقلل الناتج المحلي الإجمالي. بل لأن الطلب عندما يرتفع بأكثر من الناتج في اقتصادٍ قريبٍ من التوظيف الكامل كما هي الحال في الولايات المتحدة الآن سيكون جزء من ذلك الطلب المرتفع على سلع غير قابلة للتداول (للتصدير والاستيراد).
ومع التوسع في العرض لمقابلة الطلب يتم سحب مدخلات الإنتاج بما في ذلك العمل من قطاعات السلع القابلة للتداول (مثل منتجات) الصناعة التحويلية.
وبالتالي يتم إشباع الطلب على السلع القابلة للتداول بالواردات فينمو العجز التجاري وتنكمش الصناعة التحويلية.
ليس بالضرورة أن تدفع الرسوم الجمركية التوازن بين الدخل والإنفاق في هذا الاتجاه أو ذاك. وهذا هو السبب في أنها لن تُحسِّن وضع الميزان التجاري أو الوظائف الصناعية.
الرسوم الجمركية ستجعل العملة أكثر قوة كما شهدنا ذلك في تقلبات قيمة الدولار استجابةً للتهديد بفرضها على الواردات من المكسيك وكندا والصين والآن أوروبا. فهذا (أي أثر الرسوم على سعر العملة) يزيد الواردات ويؤذي الصادرات.
كما تُلحِق الرسوم الجمركية الضرر بالصادرات من خلال رفع أسعار السلع الوسيطة بالغة الأهمية. ولن يحدث تغيير يذكر في الميزان التجاري في مرحلة ما بعد تطبيق الرسوم. بل من الممكن أن ينخفض. وإذا لم يتأثر إنفاقُ الولايات المتحدة الذي يفوق دخلَها لن تتغير الحاجة إلى تحويل الموارد لقطاع الخدمات واستيراد السلع من الخارج. ولن يتوسع التوظيف في القطاع الصناعي.
الحديث عن الرسوم الجمركية يصرف الأنظار عن السياسات الاقتصادية السليمة لمساعدة أمريكا. يمكن أن تشمل هذه السياسات نظاما ضريبيا أفضل في توزيع الثروة ووضع حدود لنفوذ الشركات في السوق وقدرًا أكبر من الإصلاح للرعاية الصحية وتطوير قوة العمل. لكن إدارة ترامب لا تقدم أي شيء من هذا القبيل.
صحيح لدى الولايات المتحدة ديون كبيرة للأجانب في حين تملك ألمانيا واليابان ثروات أجنبية تفوق ديونهما. لكن أكثر من نصف تلك الديون استثمارات في الأسهم أو استثمار أجنبي مباشر (بناء مصانع أو شراء أسهم شركات- المترجم.) بمعنى أنها تستفيد منها لأنها تدعم اقتصادها. خذوا مثلا حصة شركة الصلب «نيبون ستيل» اليابانية في رأسمال شركة «يو إس ستيل» الأمريكية والتي قال عنها ترامب نفسه إنها «مثيرة جدا». يمكن أن تُعزَى بعض الديون الأجنبية إلى «الاستهلاك قصير النظر».
الاقتراض يخفف مؤقتًا التحديات التي تواجهها العائلات منخفضة الدخل. فعبء الدين العائلي في الولايات المتحدة والذي شكَّل 62% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024 أشد وطأة على الفقراء. وهو في ازدياد. وتستمر الحكومة الفيدرالية الأمريكية في الإنفاق غير المستدام بما يفوق مواردها.
الادخار الوطني المتدني والاستثمار القوي هما معا وراء العجز الخارجي للولايات المتحدة. واتخاذ إجراء جاد للحد من عجز الموازنة الفيدرالية سيعزز الميزان التجاري والوظائف في قطاع الصناعة التحويلية.
هذه المقاربة تتطلب خططًا تقلل الاقتراض على نحو له معنى وفي ذات الوقت تتجنب الضرر الاقتصادي غير الضروري وذلك بدلًا عن الاستعراض المسرحي الصارخ الذي نشهده اليوم.
أولئك الذين يتولون الآن الحكم في واشنطن يعتبرون الرسوم الجمركية أداة ناجعة لحل أكبر مشكلة اقتصادية في نظرهم وهي العجز التجاري. لكن حتى إذا أمكن لهذه الأداة خفض العجز وهذا مشكوك فيه لن تزول المشاكل الحقيقية للولايات المتحدة وستظل باقية.
موريس أوبسفيلد زميل أول بمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي وكبير الاقتصاديين بصندوق النقد الدولي سابقا.
الترجمة عن «الفاينانشال تايمز»
0 تعليق