الأجيال .. تموضعات الزمن والجغرافيا

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

من المسلمات البديهية؛ سواء في الذاكرة الجمعية، أو حتى فيمن يتتبع أحداث التاريخ أن التاريخ في مفهوم المنجز يتعرض للتحريف وللتشويه، يحدث ذلك ليس فقط من أعداء الطرف الآخر المناوئ لتاريخ الأمة، وليس فقط في الزج بمفهوم حرق المراحل التي تتصادم مع الحقائق التاريخية والعلمية والواقعية، والتي يتمسك بها البعض من خلال مغالطات مفاهيمية غير مدروسة لتغذية هوى النفس لا أكثر؛ لأن الواقع يستحكم كثيرا على الموضوعية، وعلى العقلانية، وعلى المنطق، ولكن هذا التحريف يحدث حتى من أبنائه، وأقصد بأبناء التاريخ في لحظة زمنية؛ أولئك الذين ينضمون تحت عباءة جغرافية محددة بالنسب والانتماء، في ذات الزمن المعيش، ويشار إليهم بأبناء الأمة الفلانية، وبالتالي وإن حدث هذا التشويه عن قصد أو غير قصد، يكون ذلك بمثابة شيء يرضخ فيه لواقع غير طبيعي؛ لأن الواقع بتجريديته المعروفة -كما قلت- لا يمكن أن يحرف التاريخ؛ فالشواهد المادية والشفوية -على سبيل المثال- لا يمكن سحقها جملة واحدة، كما يفعل الاستعمار البغيض عندما يحرص على محو المقدرات التاريخية للأمة من الأمم، فلا بد أن يبقى الكثير من يؤصل تاريخ الأمة، ويؤرخ للأجيال امتدادهم الطبيعي، فلا يتماهون مع الزمن، وخاصة إذا حمتهم الجغرافيا باستحكامات الموقع وصلادته وبتاريخ طويل من التأصيل الحضاري، والذين يشيرون إلى الزمن أو يتهمونه بالمساعدة على أي نوع من التحريف؛ فهم مخطئون كثيرا؛ لأن الزمن يؤرخ كل التفاصيل التي تمر عليها الأمة تأريخا ماديا ومعنويا، ولذلك نحن في هذا الزمن نقرأ عن تاريخ الأمم، وعن الأحداث التي مرت، وعن مجموعة من التصادمات والمصادمات التي حدثت بين الأجيال، وعلى الرغم من طول الزمن الذي مر (آلاف، مئات، عشرات) السنين، فإن الناس لا يزالون مخلدين بهوياتهم، وبقيمهم، وبأجناسهم، وبنوعهم، وبأعراقهم، وبقبائلهم، وبألوانهم، وحتى بأشكالهم، وطولهم وقصرهم، ولذلك فالمؤرخون الحديثون لا يعانون كثيرا في سبيل الحصول على المعلومات عن كثير مما جرى عبر التاريخ، ومما احتوته الجغرافيا، فكل ذلك، أو الكثير منه موثق ومرصود سواء عبر الوثائق التاريخية أو الكتب التي يصل بعضها إلى عشرات الأجزاء، يتحقق ذلك لأنه في كل مرحلة تاريخية هناك تموضع لتوثيق الأحداث، هذا التموضع يعبر عن همة فرد أو مجموعة يشغلهم التاريخ، أو دولة يهمها كثيرًا أن توثق تاريخها، أو جماعة معينة ترى في توثيق تاريخها تأصيلا لهوتيها أو تثمينا لجهد من سبقها، وفي هذه النقطة الأخيرة تبقى ملاحظة مهمة جدا، فهذا التثمين لجهد الآخر، الذي ربما رحل عن دنيانا، ليس معناه أن لا يأتي به الآخرون ممن أعقبوه، فلربما يأتون بما هو أصلح، أو أوضح، وأكثر أهمية مما سبق؛ لأن في تحييد النزاهة أو الموثوقية، في كل ما سبق، ليس صحيحا بالمطلق، وذلك لسبب بسيط، وهي أن الأحداث والوقائع والمواقف ترتبط كثيرا بظروف الظرفية الزمنية، وبأحوال الناس المشتغلين في تدوين التاريخ، وبالحالة التي تكون عليها الجغرافيا، فالجغرافيا أيضا تتقلب وتتغير وتتبدل بفعل الإنسان، فما عهدنا قبل ثلاثين عامًا أو أقل غيره اليوم، فالجغرافيا تمارس سطوتها على حياة الناس، بما يحدثه الإنسان على سطحها، وتتباين ظروفها كما هو الحال في تقييم الزمن، وهذه مسألة مهمة عند الاحتكام على التقييم سواء لأحداث التاريخ أو للشخوص التي صنعت تاريخا، أو للجغرافيا التي تهيأت فيها الظروف لصناعة تاريخ ما، ولعلني هنا أركز أكثر على تدافع الأجيال في صناعة التاريخ، وهي الموسومة بالكثير من المعززات الحاضرة، فما يتوفر من أدوات لصناعة التاريخ اليوم، أكثر بكثير من الأدوات المتاحة قبل مائة سنة أو أقل، وللأدوات شأن كبير، ويجب عدم تجاوزها عند التوثيق، سواء من جهة الكم، أو النوع، فالأدوات تصنع الأعاجيب، وتظل معبرة عن أجيالها في فترتها الزمنية، وفي هذا المقام قرأت نصا أرى فيه الكثير من الأهمية والموضوعية، يقول النص: «هناك هدف من تحريف التاريخ وجعله يبدو كأن الرجال العظماء فعلوا كل شيء، إنه جزء من كيفية تعليم الناس أنهم لا يستطيعون فعل أي شيء، وأنهم عاجزون، وعليهم فقط انتظار رجل عظيم ليفعل ذلك من أجلهم» -قول منسوب إلى الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي- وهذا المعنى يتصادم بالفعل مع حقيقة الواقع، وإلا كيف تطورت الحياة اليوم «فكريا، وأدواتيا» بصورة مذهلة، مع أن من يطوروا كل ذلك هم من أبناء الجيل الحاضر، وهو جيل متنوع؛ ومبدع إلى حد الدهشة، ويأتون بما لم تأت به الأوائل، ربما هنا تغلب الرمزية على الأشخاص، وهذا ما يشير إلى ثقافة المجتمع لا أكثر، فالمجتمعات الحديثة غير التقليدية، لا تحتكم كثيرا على الرمز، بقدر ما تؤمن بالمنجز الحاضر الملموس.

صحيح أن المعرفة لا تشهد مناطق أو فترات رمادية، بل هي سلسلة من الإنجاز المستمر، وهو إنجاز تراكمي تهيأت له مقومات الزمن والجغرافيا، ووجد بينهما فاعل أسطوري وهو الإنسان، وفي هذه الحالة -الإنجاز والإبداع- ليس شرطا أن يكون امتدادا لما كان عليه من سبقه كوجود «رجل عظيم ليفعل ذلك من أجلهم» -حسب تعبير تشومسكي- إطلاقا، فالزمن والجغرافيا يعيشان حالة «ولَّادة» بصورة مستمرة، ولذلك فما تحسبه من شعوب خاملة في زمن معين، وفي جغرافية ضحلة، فإذا بها تشتعل إنجازا وعطاء، وتحققا، وإذا بهذه الشعوب يعيدون نصاعة القوة التي تضيف أعمارا أخرى للتاريخ، وتسقط؛ في المقابل؛ سمة التشويه التي قد تعرضت لها ذات الجغرافيا في زمن ما، وذات الحالة الزمنية الخاملة لظروف استثنائية، وأقول استثنائية، لأن الحقيقة الإنسانية لا تنتظر تهيئة الظروف المناسبة لتبدأ، فهي في حالة ديناميكية مستمرة، وإن أتى «الرجل العظيم» -حسب تشومسكي- فذلك يكون إضافة نوعية في مسيرة هذا الشعب أو ذاك، في لحظة زمنية فارقة، وفي بقعة جغرافية محددة، فالأفراد حسب قول الباحث عادل المعولي في كتابه (تقدم العلم وتأخر الوعي): «لا يرثون الاختيار الإنساني، فالاختيار الإنساني ينتقل باحتكاك الإنسان بما حوله (من البيئة الطبيعية) وبمن حوله من (البيئة الاجتماعية)» أي من خلال تلاقح الأفكار، واحتكاك التجارب، وتأصيل المعرفة التي تفضي إلى كثير من التقدم، والترقي الإنساني، وإعلاء سقف الحرية، فالحرية لا تتحقق إلا بالمنجز المعبر عن واقعه، منطلقا من جغرافيته، معبرا عن زمن الأجيال الصانعة له.

السؤال هنا أيضا: هل الأجيال مأسورة بصورة مطلقة بمسألتي الزمن والجغرافيا؛ عبر تموضعاتهما؟ مع أن الزمن يعيش حالة ديناميكية مستمرة؛ أي غير جامد بالمطلق؛ وإن شاب الجغرافيا شيء من الجمود الحذر أو المؤقت، وفي الوقت نفسه أن الزمن لا يمكن أن يستقل عن الجغرافيا بدينامكيته السريعة والخطيرة في آن واحد، فالجغرافيا ملتحمة بالزمن التحاما وجوديا؛ كما هو معروف، وهل في تحرك الأول وجمود الثاني؛ شيء من التعقيد؟ قد لا يكون تعقيدا بالمطلق ولكن إحداث فجوات متقطعة، وهذه الفجوات تؤثر تأثيرا كبيرا في الحكم على تطور الشعوب؛ لأن العملية عملية تراكمية، فإذا حصل أي تأخير عن هذه التراكم المتتالي، فإن حقيقة الفجوات حاصلة بكل تأكيد، وهذا ليس من صالح الأجيال، وللذين يراهنون على المسألة الـ«دراماتيكية» فإن لهذا الرهان أن يتحقق في ظل مقاييس وموازين منطقية لا تسير الحياة إلا بها، ولا تتحقق المنجزات إلا من خلالها، ولذلك قيل: «الشخص المثالي يسعى لتحقيق أهدافه دون المرور بالمراحل الضرورية، على عكس الشخص الطموح الذي يقدر أهمية كل مرحلة في مسار النجاح» بمعنى أن المثالية لا تصلح لأن تكون أداة قياس لتطور المجتمعات، بعكس الطموح، وهذا المعنى ما يشير إلى مفهوم حرق المراحل، وهو أمر في غاية الأهمية، فالتنميات المرتبطة بالبرامج والاستراتيجيات لا تقبل إطلاقا مسألة حرق المراحل، ومن عنده قناعة بخلاف ذلك، فذلك يكون نوعا من التنظير الفارغ الذي لا قيمة له على الإطلاق، لذلك يجب «التعامل مع الزمن كمعطى كيفي وليس كميا، أو جعل كمية الزمن للرفع من كيفيته، حيث أثبتت الدراسات أنه يحصل هدر كبير للزمن في العادة لأننا لا نرصد لمهامنا أو تحركاتنا وقتا محددا بدقة»- بحسب: .https://www.akhbarona.com -. وهذا مأزق يعيشه الجميع أفرادا وجماعات.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق