مع نهاية الفترة المتبقية لرئيس الوزراء الكندي «جاستن ترودو»، أطلق تصريحا أكد فيه أنه لا يخجل أن يصف نفسه «صهيونيا»، وسبق «ترودو» رؤساءُ دولٍ أخرى مثل الرئيس الأمريكي السابق «بايدن» الذي صرّح علانية أنه «صهيوني» وداعم للصهيونية، ولعلّ هناك المزيد من أمثال هؤلاء الذين لم تسبق ألسنتهم خبايا صدورهم؛ فيكفي ما تكشفه أعمالهم المنافية للعدالة والأخلاق الإنسانية ذات الطابع الصهيوني. لا أسابق الأحداثَ حال طرحي تساؤلا مفاده: «ماذا بعد الصهيونية؟»؛ إذ تشير الأحداث وفوح روائحها غير المعهودة بأن العالم يعبر عنق زجاجة مزعج ومتعب، ولا يستبعد أن يستمر مخاضه لبضع سنوات قادمة؛ فجنون الكيان الصهيوني وحليفه الأمريكي في أقصى حالات التهور وعدم الاستقرار السياسي، وفاقت جرائم الإبادة والعبث الإجرامي حدود المعقول؛ مما جعل العالم يستيقظ على صدمة لم يكن ليتخيل أحداثها القاسية في القرن الواحد والعشرين حيث تلمع الحضارة الإنسانية ببريقها الرقمي وسموها الحضاري وفق سرديات العلماء والفلاسفة، ولكنها مقتضيات حتمية وبداية لنهاية -كما نستعيرها من أديبنا الكبير نجيب محفوظ-.
لم يكن تأسس الصهيونية محل صدفة وبلا أدوات تحضير ومطبخ إعداد، ولكنها ظاهرة أخذت في نموها التدريجي بداية مع فكرة نمت في عقول مجموعات نصرانية آمنت بمعتقدات تتجاوز حدود الخيال؛ فتداخلت في فترات زمنية لاحقة مع رغبات غربية تطمح إلى التخلص من اليهود ووجودهم في غربها المسيحي؛ فكانت بداية مع ولادة «الأرض الموعودة» وفكرتها المخترعة، وتفاعلت معها توجهات اقتصادية ومالية تزاوجت مع مشروعات الاستعمار والتعطّش لنهب ثروات الأمم؛ فتشكلت تكتلات اقتصادية عالمية خاضعة لمبادئ الصهيونية؛ لتخترق صفوف المؤسسات السياسية وتقيدها بشروطها الجديدة؛ فكانت الولادة غير الشرعية -كما يصفها المفكّر وضاح خنفر- للكيان الصهيوني عقب تشكّل العالم الجديد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، وكون أن هذا الكيان مدرك لفقدانه الشرعية الجغرافية والتاريخية؛ فإنه يعيش قلقا وجوديا يتمثّل في إدراكه بتزعزعه السياسي المستمر الذي سيقوده عاجلا أم آجلا إلى نهاية وجوده الجغرافي في المنطقة العربية التي لا يتصل بها بأي صلة؛ إذ يتكون المجتمع الإسرائيلي في أصله من مجموعات مهاجرة أغلبها من الدول الغربية وأوروبا الشرقية وأقليات من دول أفريقية وغيرها من الأعراق، ومنهم رئيس الكيان المجرم «نتنياهو» ذو الأصول البولندية.
يؤكد لنا التاريخ أن للحضارات والأمم دورتها الزمنية التي تقضي بقانون البداية والنهاية والاستبدال، ومع كل بداية، تتأسس الأفكار وتنشأ في ظل غفلة الخصم الضعيف المشتغل بتوافه الحياة وأمورها، وهكذا كان الحال مع هذه الأفكار الصهيونية التي وجدت طريقها إلى التنفيذ إبان اشتغال العالم الإسلامي بقيادة الدولة العثمانية في صراعاته الداخلية التي عاشت منذ بداية القرن العشرين أحلك ظلمات مراحلها الحضارية -وإن كان ذلك نتيجة تراكمات سياسية وثقافية واقتصادية راكدة-؛ فزادت فجوة الانفصال السياسي في العالم العربي وقطيعته مع تفاعلات السياسة العالمية ومجرياتها التي لم يكن فيها سوى متأثرٍ لا مؤثرٍ، وهذا ما يُعزى سببه إلى نقص خبرته السياسية وعدم امتلاكه الأدوات المعرفية اللازمة التي كانت في معظمها بقبضة العنصر العثماني؛ فأورث ذلك هزالا حضاريا غير مسبوق منذ الغزو المغولي بان مع تهاوي أركان الدولة العثمانية؛ لتكون كثيرٌ من الجغرافيا العربية وأمصارها عرضة للاستعمار الغربي ومنها أرض فلسطين التي وهبت -لاحقا- إلى غير أهلها.
بجانب ما يمكن أن نقرأه ونستعرضه من سرديات كثيرة عن أسباب هذه الهزيمة وعن نشأة الصهيونية العالمية وامتلاكها زمام التحكّم العالمي وعناصره السياسية والعسكرية والاقتصادية؛ فإننا نعود إلى قانون الحضارة الذي ذكرناه آنفا في السطور السابقة؛ لنستيقن أن للباطل دورةً لابد لها من منتهى، وتوجهنا مؤشرات القلق الوجودي الصهيوني إلى قرب هذه النهاية التي تسبقها مظاهر التخبط السياسي والعسكري، ولا نستبعد أن المعادلة الحضارية لا تشمل الكيان الصهيوني وحسب، ولكنها تشمل كل الحاضنات التي تفرض نفسها زعيمة للحضارة الإنسانية في عالمنا الحالي؛ ففاق التخبط الأمريكي بقيادة الرئيس الأمريكي الحالي كل الخطوط الأخلاقية الحمراء؛ فتأتي في أشكال كثيرة منها الدعم العسكري اللامحدود للكيان المجرم، ومنحه صلاحية القتل والإبادة الجماعية، والتهديد الأمريكي المباشر والصريح بامتلاك «غزة» وتخيير أهلها بين التهجير أو الموت الجماعي. لا تعكس كل هذه الأحداث إلا اقتراب العالم وقطبيته الصهيونية من النهاية الوشيكة، ويبقى السؤال المهم: ماذا بعد الصهيونية؟ وتأتي الإجابة في ضوء القراءة العامة للأحداث التي تشير -بجانب التخبط الأمريكي ومعاركه التجارية مع الغرب والصين- بأن مركزية العالم الجديد القادم وثقله السياسي والعسكري والاقتصادي سيكون صينيا بامتياز، ويخوض هذا المشهد الجديد للعالم مخاضه الحضاري الحتمي الذي يسبق تشكّله؛ فنراه في صوره القاسية الحالية من حروب ومعارك اقتصادية وتجارية، ولعلّه يقترب من نهايته المحتومة التي ستنتج عنها ولادة جديدة بزعامة صينية بجانب أقطاب أخرى حليفة، ولا أعتقد وجودا فعّالا للصهيونية التي فقدت كل شرعيتها وتهاوت كثيرٌ من حواضنها ومقومات وجودها، وبات ضعفها الداخلي وتشققها جليّا. لا يمكن التكهّن بأسلوب العالم الجديد، ولكن بانفصاله -المحتمل- عن الصهيونية وتأثيرها العميق؛ فإنه ذو طابع تقني وصناعي واقتصادي، وأبعد أن يكون ذا أهداف استعمارية تستهدف ثقافة الشعوب وهوياتهم؛ فالنزعة في تأسيسها أقرب إلى الفلسفة الاقتصادية.
نحن أمام متغيرات عالمية جديدة، ومن المؤسف أن لا نرى للأمة العربية نصيبا في هذه المتغيرات؛ فما تزال الدول العربية غارقة في صراعاتها الداخلية التقليدية التي لم تعد ضرورة في عالم رقمي متسارع؛ فلم تسعَ أن تجد حلولا لمشكلاتها المعرفية والصناعية والاقتصادية والسياسية، ولم تتبنَّ رأيا عربيا موحدا تفك ارتباطها من القيود الأمريكية والغربية المرهقة، وتبدأ مشروعا عربيا وحدويًّا فاعلا يضمن لها وجودا مؤثرا في العالم الجديد الآخذ في التشكّل كما تفعل الصين والهند وروسيا؛ فلا سبيل إلى ثقل عربي يمكن أن يصطف مستقبلا مع دول مثل الصين والهند إلا بوحدة صناعية واقتصادية وسياسية وعسكرية عربية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتحديد بوصلة واضحة المعالم للبناء الحضاري وفلسفته بمكوناتها الرئيسة التي تعبّر عن الهوية (الدين واللغة) وتعبّر عن محركات الاقتصاد (الصناعة والتجارة) وتعبّر عن القوة (الصناعات العسكرية والدفاع المشترك).
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
0 تعليق