إنها «الاعتذارات» التي تُلفَّع تتنقب بالكبرياء، وتُهمس بأصواتٍ مبحوحةٍ كأنها صدى بعيد لجرسٍ مُكسَّر.
كلماتٌ تتهادى على الألسن كحبات المطر التي تلامس الأرض ثم تتبخر، لا تروي ظمأ، ولا تُنبِت زهراً.
هل رأيتَ يوماً اعتذاراً يُشبه المرآة المُعتّمة؟ يعكس صورةً مشوَّهةً للندم، كأنه ظلُّ حرفٍ ناقصٍ في كتابةٍ منقوصة.
إنه الاعتذار الذي يُطلَق كسهمٍ على فراغ، لا يُصيب قلبَ الجُرح، ولا يمسح دمعَ الغاضب.
كأن يقولَ أحدهم: «أنا آسفٌ لو آلمتك»، فيختبئ وراء «لو» الواهية، كمن يرمي حجراً في بحيرةٍ ثم يفرُّ من تبعاتِ دوائر الماء.
إنها كلماتٌ تختزل الألمَ في فخ «إذا»، فكأنما الخطيئة وهمٌ، والمُتألمُ هو من نسجَ الوهمَ بخياله!
الاعتذار الفارغُ هو رقصةُ تناقضٍ غريبة؛ يرفع فيها المُعتذِر يديه مُعلناً الاستسلام، بينما يُخفي في كفَّيهِ سكاكينَ التهرب.
إنه لا يعترفُ بالجرحِ، بل يلعقُ الدمَ بأطرافِ لسانِه، وكأنه يقول: «أنت من جعلتَ السكينَ يجرحُك!».
إنه يزرعُ في حقلِ الاعتذار بذوراً من الملح، فلا تنمو إلا شوكَ الكراهية، ويحصدُ مِن علاقاتهِ يباساً.
أما الاعتذارُ الصادقُ، فهو يُشبهُ نبعاً يفيضُ من أعماقِ الروح، لا يُكلِّفهُ التماسُ غالياً، ولا النزولُ إلى أعماقِ الذاتِ عاراً.
إنه يُسمِّي الخطيئةَ باسمها، كمن يُخرجُ شظيةً من لحمِ القلبِ بحرقةٍ، ثم يضمُّ الجرحَ حتى يندمل.
إنه يقول: «أخطأتُ حينَ كسرتُ وعودي، وأدركُ أن غيابي أطفأَ شمعةَ ثقتك».
هنا، تتحولُ الكلماتُ إلى خيوطِ ذهبٍ تُرتقُ بها الفُرجاتُ بين النفوس.
لكنّ الاعتذارَ الحقيقيَّ لا يكتملُ إلا حينَ تُرفَقُ الكلماتُ بفعلٍ يُزيحُ ثقلَ الذنب. فهو كالغيثِ الذي لا يكتفي بإنشادِ قصيدةِ المطر، بل يُنبتُ الأرضَ العطشى.
أن تُصحبَ «آسفُ» بيدٍ تمتدُّ لإصلاحِ ما انكسر، أو بصمتٍ يستمعُ إلى صدى الألمِ في عينيّ الآخر، أو بخطوةٍ تُثبتُ أن الخطأ كان مجردَ منعطفٍ في طريقٍ طويلٍ نحوَ التَّقوى.
في النهاية، ليست العبرةُ في كثرةِ الاعتذارات، بل في نُبلِ ما تحملهُ من ندم.
فالبعضُ يظنُّ أن الكلمات طلاسمُ سحريةٌ تمحو الذنوبَ كلمحِ البصر، لكنَّ الزمنَ لا يُعيدُ الثقةَ الممزقةَ إلا إذا أنبتَّتْ جذورُ الندمِ في تربةِ الأفعال.
وكما أن الشجرَ لا يُثمرُ من غيوثِ السحبِ الوهمية، فالنفوسُ لا تُزهِرُ إلا بماءِ الصدقِ ودفءِ التَّضحية.
فاحذرْ أن تكونَ «آسفُ» على شفتيكَ مجردَ طلسمٍ فارغٍ، واجعلها بذرةً تُغرسُ في صحراءِ الزللِ، لتنبتَ يوماً شجرةً يُستظلُّ بفيئها، ويُؤخذُ منها ثمرُ المغفرة.
أخبار ذات صلة
0 تعليق