بلقيس الحبسية وحمدان الشرقي / تصوير: محمد الصبحي
تؤدي سلطنة عُمان دورًا رائدًا في دعم الصناعات الثقافية والإبداعية كجزء من استراتيجيتها لتعزيز التنويع الاقتصادي، مستفيدة من تراثها العريق وتنوعها الثقافي الغني، وفي ظل التوجه العالمي نحو الاقتصاد البنفسجي الذي يدمج البعد الثقافي في مختلف القطاعات الاقتصادية، تسعى سلطنة عُمان إلى تمكين الشباب العماني للإبداع والابتكار، مما يسهم في بناء اقتصاد قائم على المعرفة والثقافة.
وتأتي مبادرة "نراك" كمشروع طموح يهدف إلى توفير بيئة داعمة للمبدعين، وتشجيعهم على تطوير مشاريع تعكس الهوية العمانية، مع تحقيق أثر اقتصادي ملموس، في هذا الاستطلاع، تسلط "عُمان" الضوء على دور سلطنة عُمان في تعزيز الاقتصاد البنفسجي، وأهداف المبادرة، والتحديات التي تواجهها، بالإضافة إلى آراء المشاركين حول تأثيرها على مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية في سلطنة عُمان.
استثمار ثقافي
وحول مفهوم الاقتصاد البنفسجي، قالت مهرة بنت يحيى الرئيسية، مؤسسة مبادرة "نراك": "الاقتصاد البنفسجي هو مفهوم اقتصادي حديث يجمع بين الثقافة والإبداع لتعزيز القيمة السوقية للمنتجات والخدمات، حيث يعتمد على دمج الأبعاد الثقافية والتراثية بطرق مبتكرة لجعل السلع أكثر جاذبية ليس فقط على المستوى المحلي ولكن أيضًا في الأسواق العالمية، فهو يركز على إبراز الهوية الثقافية في المنتجات بطريقة تعزز قيمتها وتعطيها ميزة تنافسية مستدامة".
وأوضحت الرئيسية، أن هذه المبادرة تأتي كمشروع ريادي يسعى إلى تمكين الشباب العماني المبدع من خلال إيجاد بيئة حاضنة وداعمة للابتكار في مختلف القطاعات الإبداعية، وتهدف المبادرة إلى تقديم الدعم والتوجيه لرواد الأعمال والمبدعين في مجالات الفنون، والتصميم، والحرف التقليدية، والتكنولوجيا الإبداعية، بما يسهم في تعزيز إسهاماتهم في الاقتصاد الوطني.
وأضافت الرئيسية: إن "نراك" تعمل على تحفيز الشباب العماني لاكتشاف إمكانياتهم الإبداعية واستثمارها في إنتاج سلع وخدمات تعكس الهوية الثقافية العمانية بأسلوب عصري، مما يسهم في إبراز سلطنة عُمان كوجهة للإبداع والابتكار الثقافي، كما تسعى المبادرة إلى تسهيل وصول المنتجات الإبداعية إلى الأسواق العالمية من خلال توفير منصات تسويقية ودعم تقني واستشاري، مما يعزز من فرص نجاح المشاريع الإبداعية وريادة الأعمال الثقافية.
كما يمثل الاقتصاد البنفسجي وسيلة قوية لدعم التنمية الاقتصادية من خلال الثقافة، حيث يمكن أن يؤدي دورًا حيويًا في تنويع مصادر الدخل وتعزيز الاستدامة الاقتصادية، وذلك عبر تحويل التراث والموروث الثقافي إلى منتجات ذات قيمة مضافة تلبي احتياجات العصر الحديث، مما يجعلها أكثر جاذبية وقابلة للتسويق عالميًا.
وأضافت الرئيسية: "تسعى المبادرة إلى رفع مستوى الوعي بأهمية الصناعات الثقافية والإبداعية باعتبارها أحد المحركات الرئيسية للنمو الاقتصادي المستدام، مع التركيز على قيم الابتكار، والمشاركة، والتكاملية، ومن خلال هذه المبادرة، نعمل على بناء منظومة متكاملة تتيح للمبدعين التعبير عن أفكارهم، وتطوير مشاريعهم، وتحقيق طموحاتهم، بما يسهم في دعم الاقتصاد الوطني وإثراء المشهد الثقافي العماني".
تمكين المبدعين
تطرقت مهرة إلى التحديات التي تواجه المبدعين قائلة: "إن الشباب العماني، وخاصة المهتمين بالثقافة والإبداع، يواجهون تحديًا رئيسيًا يتمثل في عدم وضوح موقعهم ضمن الصناعات الثقافية والإبداعية، سواء على مستوى المجال، أو القطاع، أو الصناعة، وللتغلب على هذا التحدي، من الضروري تعزيز وعي المجتمع العماني بهذه الصناعات أولًا، ثم العمل على ترسيخ ثلاث قيم أساسية يجب أن يتبناها كل مبدع وهي الابتكار، من خلال إيجاد حلول جديدة لتحديات قديمة، والمشاركة، بإعادة تعريف مفهوم التعاون والتفاعل داخل المجتمع الإبداعي، والتكاملية، التي تضمن استدامة أي مشروع إبداعي"، كما أشارت إلى أن الكثير من المبدعين يعبرون عن غياب بيئة داعمة، لكنها ترى أن البيئة ليست مجرد مكان أو أدوات توفرها الجهات الرسمية، بل هي منظومة متكاملة يجب على الشباب المبدع نفسه أن يسهم في بنائها من خلال تبني هذه القيم الثلاث، مما يوجد بيئة حقيقية ومستدامة للإبداع.
وفي هذا السياق، دعت كافة الجهات المعنية من القطاعين العام والخاص، إضافة إلى المؤسسات الثقافية والمجتمعية، للانضمام إلى هذه الجهود الوطنية، والعمل معًا على دعم الشباب العماني المبدع، لضمان مستقبل أكثر ازدهارًا للصناعات الثقافية والإبداعية.
وقالت الدكتورة حنان بنت محمود أحمد، باحثة في الهوية الثقافية العمانية، عن تجربتها في المشاركة كمتحدثة في "نراك": "لم يكن ما أفعله مجرد وظيفة، بل مسؤولية وطنية شعرت بها منذ طفولتي، حينما كنت أرتدي أثواب الولايات العمانية في فوازير رمضان، مجسدة موروثنا العريق، ولم أكن أعي حينها أن تلك التجربة ستشكل وعيي العميق بأهمية الهوية الثقافية والانتماء للوطن"، بهذه الكلمات تبدأ حنان، الباحثة في الهوية الثقافية العمانية، حديثها عن رحلتها الطويلة في دراسة التراث العماني وتحويله إلى قوة اقتصادية مستدامة.
روت الدكتورة حنان أن شغفها بالهوية الثقافية بدأ منذ صغرها، حينما كانت تجسد الموروث العماني في فوازير رمضان، متنقلة بين 30 ولاية عمانية، حاملة تفاصيل العادات والتقاليد والأزياء التراثية، لكنها لم تتوقف عند الذكريات، بل مضت في رحلة أكاديمية، درست الإعلام وعلوم الاتصال، ثم التحقت بمؤسسة تُعنى بحفظ وصيانة التاريخ العماني.
وقالت في سياق ذلك: "في أحد الأيام، وجدت نفسي أمام كنز من الوثائق والمخطوطات التي تروي تاريخنا، لكنني تساءلت، لماذا تُحفظ هذه الكنوز في المخازن بعيدًا عن عامة الناس؟ لماذا لا نجعلها متاحة للجميع عبر المعارض والمبادرات الثقافية؟"
ولم تكتفِ بالبحث داخل المكتبات، بل أخذت على عاتقها نقل هذا الإرث إلى الناس، من خلال معارض متنقلة جابت الولايات العمانية ووصلت إلى خارج سلطنة عُمان، ومع إعلان "رؤية عمان 2040" التي ركزت على الهوية والثقافة الوطنية، ازداد شغفها بضرورة توثيق هذا الإرث بطريقة علمية، فبدأت بتأليف أول كتاب يوثق الهوية الثقافية العمانية، متسائلة: "كيف يمكن تعريف هويتنا؟ وما عناصرها؟ وكيف يمكن أن تتحول إلى مورد اقتصادي؟".
وأكدت الدكتورة حنان أن الهوية الثقافية ليست مجرد إرث تاريخي، بل يمكن أن تكون محركًا اقتصاديًا قويًا، وهو ما تؤكده من خلال دراستها للاقتصاد البنفسجي، الذي يجمع بين الإبداع، والثقافة، والتنمية الاقتصادية.
كما أن التحولات الرقمية فتحت آفاقًا جديدة لنشر الثقافة العمانية، حيث يمكن توظيف وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الحديثة في تسويق التراث، وتحويله إلى مشروعات مستدامة تدعم الاقتصاد الوطني وتوفر فرص عمل للشباب.
بالإضافة إلى أن الحفاظ على الهوية لم يعد مسؤولية الباحثين وحدهم، بل أصبح جهدًا مشتركًا، حيث يفسّر الباحث، ويصمّم المبدع، وتنفّذ الشركات، وتدعم المؤسسات، بينما يوثّق صانعو المحتوى وينشرون، مما يجعل الهوية الثقافية جزءًا من الحاضر والمستقبل.
ومن جانب آخر، قال عمار المحروقي عن تجربته في "نراك" كمتحدث إنه في إطار الحراك الثقافي المتنامي في سلطنة عُمان، قدمت جلسة بعنوان "القصص هي إرث عُمان، والإبداع هو إرثنا"، وتناولت فيها ثلاثة محاور رئيسية وهي تحويل الصناعات التطبيقية إلى صناعات فنية، وتأثير الصناعات الفنية على الاقتصاد البنفسجي، وتأصيل الثقافة العُمانية.
وأشار المحروقي إلى أهمية تحويل الصناعات التطبيقية إلى صناعات فنية، موضحًا أن هذا التحول يعتمد على دمج الإبداع الثقافي والفني في المنتجات والخدمات، من خلال التعاون مع الفنانين والمصممين لاستلهام أفكار جديدة تعكس الهوية العُمانية، كما شدد على دور الفنون الحرفية والإبداع البصري في إضفاء لمسة فنية متميزة على الصناعات، مما يعزز من قيمتها الثقافية والاقتصادية.
إضافة إلى دور الصناعات الفنية في دعم الاقتصاد البنفسجي، مؤكدًا أن الشباب العُماني قادر على تحويل الإبداع الثقافي إلى مشاريع اقتصادية مستدامة، واستعرض أمثلة ناجحة من المجتمع العُماني، أبرزها مشاريع إعادة إحياء الحارات العُمانية التاريخية مثل حارة العقر وقرية السوجرة، حيث تم تحويل هذه المواقع إلى وجهات سياحية وترفيهية تحتفي بالتراث العُماني، عبر ترميم العمارة التقليدية وإنشاء نُزل سياحية، ومحلات تجارية، ومساحات للمعارض الفنية، مما أسهم في تنشيط الاقتصاد المحلي، كما أشار إلى منصة "نراك" كنموذج حي لتحويل الفكرة إلى حراك ثقافي اقتصادي يسهم في تعزيز الاقتصاد البنفسجي من خلال استقطاب مختلف شرائح المجتمع.
وأكد المحروقي في ختام حديثه على ضرورة تأصيل الثقافة العُمانية، مؤكدًا أن الاعتزاز بالهوية الوطنية يجب أن يبدأ من التعليم، من خلال إدراج التاريخ والتراث العُماني في المناهج الدراسية، وأشار إلى أهمية الترويج للهوية الثقافية عبر الزي العُماني في المحافل المحلية والدولية، وتسليط الضوء على المؤسسات الثقافية مثل متحف عُمان عبر الزمان، بالإضافة إلى تنظيم المهرجانات والفعاليات الثقافية التي تدمج التراث بالسياحة، مما يعزز الحضور الثقافي العُماني على المستويين المحلي والعالمي، حيث إن الاقتصاد البنفسجي يمثل فرصة استراتيجية لسلطنة عُمان، إلى جانب أنه يتيح استثمار الموروث الثقافي والإبداع الفني في إيجاد مستقبل اقتصادي مستدام، يحافظ على الهوية ويعزز النمو الاقتصادي في آنٍ واحد.
ريادة ثقافية
وحول تجربة المشاركة في المبادرة ودورها في تعزيز الاقتصاد البنفسجي، قال سليمان بن يعقوب الهنائي، طالب في الفصل الأخير بجامعة السلطان قابوس، ومهتم بالصناعات الإبداعية، ومصمم جرافيك، ومالك علامة تجارية للمشروبات "سينس": "براند سينس هو تجسيد حي لفكرة الاقتصاد البنفسجي، حيث نعمل على تقديم تجربة متميزة في عالم الشاي مستوحاة من الثقافة العمانية الأصيلة، وسلطنة عُمان تزخر بجذور ثقافية وطبيعية متأصلة في هويتنا، وهذا ما نسعى إلى إبرازه من خلال مشروباتنا التي تعتمد على مكونات طبيعية محلية مثل الفواكه والأعشاب العمانية".
وأضاف: مشاركتنا في "نراك" جاءت لتعزز هذا المفهوم من خلال تقديم نموذج اقتصادي يرتكز على الهوية الثقافية، حيث لا نقدم منتجًا فقط، بل نروي قصة مستمدة من بيئتنا وتراثنا، مما يوجد تجربة ذات قيمة مضافة تتجاوز الجانب التجاري إلى الإبداعي والثقافي، ونؤمن في "سينس" أن التطور لا يعني التخلي عن الجذور، بل الاستفادة منها لإيجاد منتجات تتماشى مع متغيرات العصر دون أن تفقد هويتها الأصيلة، و"نراك" تمثل فرصة رائعة لتفاعل الجمهور مع هذا المفهوم، حيث لمسنا اهتمامًا كبيرًا من الزوار الذين جربوا منتجاتنا وأعادوا التجربة أكثر من مرة، مما يعكس تعطش السوق للمنتجات التي تحمل هوية ثقافية واضحة، كما أن الظهور الإعلامي الذي وفرته المبادرة ساعد في إيصال رسالتنا إلى نطاق أوسع، مما يعزز مكانة الثقافة العمانية في الاقتصاد الإبداعي، واليوم، الاقتصاد البنفسجي لم يعد مجرد فكرة، بل أصبح واقعًا ملموسًا يمكن من خلاله توظيف الإبداع والثقافة في إيجاد مشاريع مستدامة ذات تأثير اقتصادي واجتماعي، وهذا ما نطمح إليه في "سينس"، حيث نبني تجربة ترتكز على البيئة المحلية وتحول عناصرها إلى منتجات تعكس هويتنا، مما يرسخ مفهوم أن الاقتصاد يمكن أن يكون ثقافيًا ومبتكرًا في آنٍ واحد.
وقال الطالب عبدالله بن سعيد المعمري من كلية العلوم الزراعية والبحرية بجامعة السلطان قابوس عن مشاركته كمتطوع في "نراك": أتت مُشاركتي في هذا الحدث بعدما أتاحت لنا شركة زمكان الفرصة في التطوع لمبادرتها الثقافية الإبداعية، وقد تجددت الدوافع لدي من خلال أول اجتماعات العمل ومنذ تعرُّفي واكتشافي لمبادرة "نراك" التي ألهمتني وجعلتني أشعر بأنه المكان والفرصة المناسبة للتطوع وخدمة المجتمع والوطن من خلال الهوية الثقافية التراثية التي لامستها، كما أن التطوع يمثل جزءًا أساسيًا من حياتي، وأرى أنه النافذة المشرقة للعطاء والإسهام في إحداث التغيير وتقديم المساعدة للآخرين.
وأضاف المعمري: إنه مما لا شك فيه أن المكتسبات التي حصلت عليها من صقل لمهاراتي الاجتماعية والثقافية والفنية، وتعززت لدي الرغبة في تمثيل هويتنا الوطنية والسعي لإبرازها، ولا أنسى العلاقات والشخصيات الملهمة التي تعرفت عليها ولامست المعرفة التي يمتلكونها.
ومبادرة "نراك" تعد إحدى أهم المبادرات الثقافية التي تهدف إلى تنمية الاقتصاد البنفسجي من خلال تعزيز هويتنا الوطنية وإيجاد فرص جديدة من صلب تراثنا العريق، وقد حققت نجاحات كبيرة خلال الأيام المنصرمة من خلال عدد الزوار والإطراءات المتزايدة، ومن الممكن تطويرها من خلال زيادة المحتوى الفني وأن تحظى بالمزيد من الدعم الحكومي والإيمان بالطاقات الشبابية وأفكارها.
وفي الإطار التنظيمي لمبادرة "نراك"، أشار محمد بن علي البلوشي، مدير دائرة العلاقات العامة والتنسيق بالمجمعية العمانية للسيارات، إلى أن الجمعية العمانية للسيارات دائمًا ما تولي اهتمامًا كبيرًا باحتضان مثل هذه المبادرات والفعاليات الشبابية، حيث إننا لا نركز على المواضيع الرياضية والمتعلقة بالسيارات والسباقات، وإنما أصبح لدينا مساحة وتجارب واسعة في تبني إقامة عدد من الفعاليات والمبادرات في المجال الثقافي، والاقتصادي، والشبابي.
وقال البلوشي: إن من خلال اهتمامنا الذي نكرسه من جوانب تنظيمية وتوفير المساحات الكافية بمرافقها، نحن نترجم بذلك أهمية احتواء أفكار الشباب وتطلعاتهم ومشاريعهم، وعن مبادرة "نراك"، أضاف البلوشي: "أعتقد أنه في مثل هذه الفعاليات الشبابية المهتمة بدمج الإرث الثقافي بالاقتصاد وإنجازات الشباب في هذا المجال، دائمًا ما تكون الجمعية سباقة لاحتواء هذه المبادرات والإسهام في إخراجها بالصورة التي تليق بها، كما أن الجمعية تؤكد اهتمامها بشكل مستمر بضرورة تبني فكر الشباب من خلال ما تقوم به من فعاليات وتنظيم خاص للمبادرات كجانب مصاحب لرياضة السيارات".
0 تعليق