في بداية سبعينيات القرن الماضي، بدأت شمس النهضة التي قادها باني عمان الحديثة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- تتبلور وتتوسع ويزداد بريقها يوما بعد يوم، حينها كانت قريتي العيينة بولاية سمائل الصغيرة تنام بسكون في حاضنة سلسلة جبال الحجر الشرقي تنتظر لحظة التغيير لتأخذ نصيبها من مسيرة التنمية ومظاهر النهضة.
اعتاد أحد سكان القرية ويدعى الشايب سلطان الذهاب في بداية شهر شعبان من كل عام إلى ولاية السيب ممتطيا حماره ليشتري أصنافًا من السلع بنية إعادة بيعها لسكان القرية بسعر أعلى بقليل، وكان الأهالي ينتظرون عودته بفارغ الصبر لشراء ما يلزم من غذاء ومستلزمات استعدادا لرمضان، وهم لا يملكون لوجبة الإفطار عدا التمر وخلطة من القاشع وأحيانا العوال مع البصل والليمون والزعتر، وقليل منهم من يستطيع توفير الأرز والقمح.
برغم نفحات رمضان الإيمانية إلا أن أهالي القرية كانوا يعانون أشد المعاناة خاصة عندما يتزامن الشهر الفضيل مع أيام الصيف، فهم مجبرون على القيام بمهامهم اليومية من حراثة ورعي وجلب الحشائش من قمم الجبال لإطعام بهائمهم، وعندما يحين موعد القيلولة لا يجدون ما يخفف عنهم عناء التعب والعطش إلا الذهاب إلى بساتين النخيل «المال وفق اللهجة الدارجة» يفترشون الأرض ويلتحفون بالشراشف المبللة حتى صلاة العصر، ثم يتجهون بعدها لبيوتهم استعدادا للإفطار.
يتجمع الرجال عادة في المسجد لتناول الإفطار أما النساء فيلزمن البيوت، ثم يرتفع صوت الشايب سلطان مؤذنا لصلاة العشاء، فيشق صوته العذب أرجاء القرية ويسمعه القاطنون على الضفة الأخرى من الوادي فيأتون تباعا لأداء صلاة.
يتجه الناس لأداء صلاة العشاء والتراويح في الجامع القديم للقرية المبني من الطين والأحجار فيتردد صوت القرآن بلسان الوالد صالح وهو يؤم المصلين، ويتبعه بدعاء التراويح، ثم يتناولون القهوة في «صرح» المسجد ويتبادلون الحديث لبعض الوقت، وبعدها يعودون للبيوت ويخلدون للنوم.
المفاجأة التي لم يكن يعلمها أهل القرية أن الشايب سلطان أثناء رحلته المعتادة في شهر شعبان من العام ١٣٩٠ هـ إلى السيب أصيب بعدوى مرض الكوليرا القاتل «الطاعون»، وعندما عاد للقرية قبل رمضان بثلاثة أيام انتابته حمى شديدة أطرحته الفراش، فطلب من ولده بيع السلع تحت «أشجار الأمبا» العملاقة الذي يتوسط القرية.
بعد يومين من مرض دخل الوالد سلطان في غيبوبة ثم غادرت روحه لبارئها وفي اليوم التالي تبعته زوجته، وبدأ المرض بعد ذلك بالانتشار بين أهالي القرية، فتيقن الناس أن كابوسا خطيرًا يداهمهم ولا بد من الحذر، لكن بعد ماذا؟ بعد انتشار المرض وانتقال العدوى إلى العديد من سكان القرية فبدأ الموت يأخذهم واحدا تلو الآخر في أيام متقاربة خيم عليها الحزن في كل مكان.
بدأ بعض سكان القرية يفكرون في الهروب من هذا المرض اللعين، لكن سكان القرى الأخرى وضعوا حراسة مشددة على الطرق المؤدية إلى القرية ليمنعوا الغرباء من دخولها، ويقطعون الطريق أمام أهلها من مغادرة القرية حتى لا يتسببون بنقل العدوى إلى القرى الأخرى.
ظلت القرية تصارع المرض لمدة 3 أسابيع فقدت خلالها 18 شخصا بين رجل وامرأة وطفل حتى شعر الناس أن الموت مصيرهم جميعا، وخيم الحزن على أرجاء القرية، وعلا صوت النحيب على الراحلين الذين يتوافدون على المقابر ليل نهار، لا يوجد مسعف ولا هواتف ولا وسيلة يصلون بها للحكومة الوليدة التي بدأت مهامها منذ أشهر فقط.
في نهاية الأسبوع الثالث، يبدو أن رجلًا شهمًا من إحدى القرى القريبة وصل بطريقة ما إلى العاصمة مسقط وأخبر أحد المسؤولين في تلك الحقبة بأن هناك قرية منكوبة تصارع المرض ولا أحد ينقذها وأن هذا الخطر إذا لم يتم القضاء عليه سيطال باقي القرى.
وعلى الفور سيرت الحكومة طاقمًا طبيًا إلى المنطقة المنكوبة عبر طرق وعرة طويلة، لكن البعثة لم تتمكن من الوصول إلى القرية لعدم وجود طريق للمركبات يربطها بغيرها من المناطق.
فنادى منادٍ من القرية القريبة من فوق جبل مرتفع يطل على القرية، يحث أهلها للنفير إلى مكان البعثة الطبية، فخرج الناس مفجوعين منكوبين يجرون ثوب الحزن ويشعرون بالضياع، منهم من يمشي ومنهم محمول على الأكتاف وآخرون فوق الحمير، وهناك كانت البعثة تنتظرهم تحت شجرة سدر معمرة لا تزال تعيش حتى الآن، وباشرت بتقديم العلاج لهم وتحصينهم ضد المرض الخطير حتى تم القضاء عليه.
توفي الشايب سلطان الذي كان يجلب لهم مؤونة رمضان، وبقي حماره الذي حمل على ظهره 3 من المرضى في طريقهم للعلاج، وظل رمضان في السنوات التالية ولمدة طويلة يجر معه ذكريات الحزن والأسى على الأقارب الذين فقدوا في تلك الجائحة، حتى تعاقبت الأجيال وأصبح الأمر في طي النسيان.
0 تعليق