سواء توقفت حرب الإبادة المستأنفة على "غزة" بعد حين، أو استمرت إلى وقت غير معلوم ، فإن شيئا لن يتغير فى الوضع القلق الرجراج شديد الخطورة فى المنطقة، ولن يتوقف تناسل الحروب على الأرجح، فالعدو الأمريكى "الإسرائيلى" لم يحقق أهدافه كاملة بعد، رغم أن الوقت يبدو ملائما لصياغة شرق أوسط جديد جغرافيا وسكانيا وسياسيا، ورسم حدود جديدة بفوائض النار والدم.
ورغم أن النظم المتهالكة تبدو متحمسة ومستكينة لرغبات الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" ، الذى يبدو فى صورة الثور الهائج لكن الحائر ، الذى يميل أحيانا للجم تصرفات "بنيامين نتنياهو" وانفلاته الحربى ، ثم يعود سريعا إلى القاعدة الذهبية الموروثة فى سياسة الإدارات الأمريكية ، وهى العمل وفق أولويات اعتبار "إسرائيل" بقرة مقدسة ، تملى رغباتها فيصدع ساكن البيت الأبيض لمقتضياتها ، وعلى نحو ما تواتر بإطراد فى الأيام الأخيرة ، من إلغاء تكليف "آدم بولر" كمبعوث لترامب لشئون الرهائن ، بعد غضب "نتنياهو" مع انكشاف حوار "بولر" مع قادة "حماس" فى الدوحة ، ثم إطلاق حملة عسكرية أمريكية هى الأعنف ضد جماعة "الحوثى" فى اليمن ، وتصعيد تحرش إدارة "ترامب" بإيران وبرامجها النووية والصاروخية ، ومنح الضوء الأخضر لحكومة "نتنياهو" وجيش الاحتلال لمعاودة حرب الإبادة فى "غزة" ، وجمع صور الجحيم فى لوحة واحدة ، جحيم أمريكى وجحيم "إسرائيلى" فى ذات الوقت ، وبهدف إذابة المنطقة كلها فى زبد الحديد المصهور.
وقد يتصور "ترامب" أنه يطبق نظريته أو شعاره المعلن عن صناعة السلام بالقوة ، لكنه لا يدرك تعقيدات المنطقة وأصول صراعاتها ، فبرغم انعدام التكافؤ فى موازين القوة النارية ، وبرغم استعداد الأنظمة الحاكمة فى أغلبها للتسليم برغبات "ترامب" بغير قيد ولا شرط ، إلا أنه ـ أى "ترامب" ـ لا يترك لعرب الدمى من فرص ولا هوامش للمناورة ، ويصر على تركها عارية فى مواجهة نقمة شعوبها ، وفى مواجهة طوفان الغضب الإنسانى الشعبى ، وينزع عن هذه الأنظمة كل أوراق التوت وستر العورات ، ويدعها وحيدة فى امتحانات النار ، التى تحرق البشر والحجر والشجر فى فلسطين و"غزة" بالذات ، وتكشف قيعان العجز والبؤس ، التى تحرم هذه الأنظمة من فرص تسويق ما يريده "ترامب" ، فما من عاقل ولا مجنون يصدق ، أن إفناء الفلسطينيين هو الطريق لحل القضية الفلسطينية ، ولا لخلق بيئة تستسيغ عقد معاهدات تطبيع "إبراهيمى" جديدة ، فى غياب أى أفق أو شبه أفق لقيام أى كيان فلسطينى ، تعلن الهمجية الأمريكية "الإسرائيلية" أن لا محل له من الإعراب السياسى ، وتدفع بدلا منه إلى صناعة جحيم ، يخرج ما تبقى من ملايين الفلسطينيين إلى خارج ديارهم ، وتكليف الدول العربية باستيعابهم ، وجعل أوطانهم سكنا بديلا للفلسطينيين ، وليست القصة هنا مباراة فى الخطط والتصورات.
فقد طرحت أنظمة عربية ـ أهمها فى مصر ـ خططا بديلة لخطة "ترامب" فى تهجير الفلسطينيين ، وصارت الخطة المصرية عربية عامة بعد قمة "القاهرة" الأخيرة ، وبدت الخطة مقنعة شاملة لكافة التفاصيل المتصورة ، لكن نقطة البدء فيها ظلت معلقة ، فلا يمكن البدء فى خطة إعادة إعمار "غزة" مع بقاء أهلها ، إلا أن يكون الاحتلال الأمريكى "الإسرائيلى" قد جلا وانسحب من غزة ، وهو ما بدا أن "ترامب" متقلب المزاج قد اقتنع به لوهلة ، وأعلن فى لقاء مع رئيس الوزراء الأيرلندى فى البيت الأبيض ، أن أحدا لن يطرد الفلسطينيين من "غزة" ، وبدا فى الأمر تراجعا لا فتا عن خطة الطرد والتهجير و"الريفييرا" إياها ، ثم عدنا مجددا إلى نقطة ما تحت الصفر ، مع تحمس أبداه "ترامب" لاستئناف حرب الإبادة والتهجير فى "غزة" ، بعد أن كان يتحدث عن نفسه بصفته صانعا للسلام ومتطلعا إلى عقد صفقات تريليونية مع تهدئة النار على الجبهة الفلسطينية ، ومن دون توقع أكيد لإغلاق ملف سلام "ترامب" الموهوم، فلن تكف الأنظمة المعنية عن مناشدة الراعى "ترامب" لإطفاء النيران ، ولن يكف "ترامب" عن طاعة "نتنياهو" وجموحه الحربى ، المدفوع بالإخفاق المتصل فى تحقيق أهدافه ، رغم مضاعفة حمم النيران ، فلا هو سينجح غالبا فى القضاء على "حماس" وأخواتها من حركات المقاومة ، ولا هو سينجح فى استخلاص الأسرى الأمريكيين و"الإسرائيليين" بالضغط العسكرى ، ولا هو سينجح فى دفع ملايين الفلسطينيين إلى خارج "غزة" ، ولا مصر ستسمح لاعتباراتها الأمنية الوطنية بتهجير الفلسطينيين إلى أراضيها ، وهو ما يعنى ببساطة ، أن يعود الوضع كله إلى الدوران فى حلقات الدم المفرغة ، ودونما وصول إلى هدف الأمريكيين و"الإسرائيليين" فى كسب رايات استسلام بيضاء من الشعب الفلسطينى ولا من مقاومته ، مهما كان الإنهاك وكانت المجازر المفزعة بحق مئات وآلاف المدنيين الأبرياء قتلا وجرحا وتقطيعا لأشلاء الأطفال والرضع ، وكأنهم ينفذون بالحرف ما قاله شاهد منهم قبل يوم واحد من استئناف غارات الإبادة ، فقد قالها الجنرال "موشيه يعلون" وزير الحرب "الإسرائيلى" الأسبق ، وحذر من دفع الجيش "الإسرائيلى" مجددا إلى جرائم حرب وإبادة للنساء والأطفال الرضع ، ربما المتغير المضاف ، أن "ترامب" خلع قناعه الإنسانى السلامى المزيف ، ونزلت أمريكا إلى ميدان الجحيم وحروبه رسميا ، ومن دون أن تحقق الفارق النوعى الحاسم ، فجماعة "الحوثى" اليمنية لن ترفع الرايات البيضاء المستسلمة لضراوة الضربات الأمريكية ، وإيران المستهدفة علنا من "ترامب" و"نتنياهو" ومن أنظمة عربية ، تبدو رابحة لا خاسرة فيما يجرى كله ، فالعدوانية الأمريكية "الإسرائيلية" الدموية تدعم روايتها ، وتعطى مبررات مضافة لمشروعية مقاومة الهمجية المعادية ، التى لن تتوقف عند ساحات فلسطين واليمن ، والذاهبة باستطراد الوقائع إلى صور جحيمية واردة فى كل سوريا وفى جنوب لبنان ، وربما إلى صناعة حروب أهلية دموية فى لبنان وسوريا ، وامتداد جحيم الاحتلال والغزو الهمجى ، يعطى فرصا مضافة لاشتعال بؤر مقاومة جديدة ، قد لا تكون قادرة فى التو على ردع صناع الجحيم ، لكنها تفيد من ظروف انكشاف الحقائق فى وهج النيران ، واستئناف الصراع إلى مدى طويل مقبل ، وبما يقطع الطرق على عقد اتفاقات "إبراهيمية" جديدة ، ويجعل حلم الشرق الأوسط الجديد لعنة على صانعيه والراغبين فيه ، فقد يكون هدم ماهو قائم ميسورا ، لكن إعادة تركيبه على نحو مستقر تبدو مستحيلة ، وليس فى ذلك من شئ يجلب الأذى المحقق لإيران ، بقدر ما يلحق الضرر بأيتام أمريكا وأرامل "ترامب" ، حتى لو ذهبت الضربات الأمريكية المباشرة إلى إيران ذاتها ، فأى تراجع من النظام الإيرانى الحاكم لا يفيد ملالى طهران ، بل يشعل النار تحت أقدامهم شعبيا ، بينما قد لا تكون الضربات الأمريكية مهما بلغت ضراواتها وجحيميتها ، قادرة على تدمير البرنامج النووى الإيرانى ، وهو عنوان فخر وطنى عند الإيرانيين ، تحملوا من أجله آلاف عقوبات الضغط الاقتصادى على مدى أربعة عقود وتزيد ، واكتسبوا علوما ومعارف صعدت بهم إلى عتبة صناعة القنابل الذرية ، ووزعوا منشآتهم النووية بالعشرات على جغرافيا متباعدة شديدة التحصين ، جعلت من المستحيل تدميرها جميعا ، إلا فى حالة واحدة ، هى الانقلاب على النظام الإيرانى الحاكم نفسه من الداخل ، أو بغزو عسكرى برى واسع للأراضى الإيرانية ، وهو ما لا يبدو "ترامب" متحمسا لخوض حربه ، وفى الذاكرة القريبة والبعيدة ، ذكريات إخفاق أمريكا فى كل حرب ذهبت إليها من "فيتنام" إلى "أفغانستان".
وبالجملة ، وفى مدار الحرب الأوسع التى تتسع خرائط نيرانها اليوم ، فلا تبدو أفكار "ترامب" وخططه الهوجاء الملتبسة عن فرض سلام بالقوة صالحة فى موازين اللحظة ، ولا فى تعقيدات المنطقة المسكونة بالأساطير ، وقد جرب أن يهدد بنيران الجحيم ، ودون أن يجنى ثمار الردع الذى أراده ، ثم راح بعدها يشعل الجحيم فعليا ، وفى انسياق كامل لرغبات "نتنياهو" ، ومن دون ثقة كاملة فى النتائج ، ولا تحسب دقيق للمضاعفات ، وبالذات فى قضية شن الحرب المباشرة على إيران ، والأخيرة لا تبدو وحيدة معزولة فى حسابات الانتقال العالمى الحرجة ، فقد استضافت الصين مؤخرا مؤتمرا جمعها مع روسيا وإيران عن البرنامج النووى الإيرانى ، وأجرت بالتوازى مناورة بحرية مشتركة مع موسكو وطهران فى المياه الإيرانية ، وذهاب حملة "ترامب" العسكرية إلى طهران.
قد يصطدم مباشرة بالمصالح الصينية والروسية ، ويدعم أمارات التحالف الصينى الروسى ، وعلى العكس تماما من مطامح "ترامب" المعلنة فى فصل روسيا عن الصين ، بينما يسعى "ترامب" إلى عقد صفقة أوكرانيا مع الروس ، ويواجه احتمالات ركود اقتصادى ، يسعى إلى تجنبه بانفتاح أوسع على موارد الروس الطبيعية الغنية ، وكل ذلك وغيره ، تأخذه طهران فى حسابها ، وهى تواجه حرب أمريكا و"إسرائيل" الأوسع فى الشرق الأوسط .
0 تعليق