يشهد عالمنُا المعاصر سلسلة من الأزمات التي يتضح من نتائج مجرياتها أنها تُعيد تعريف الحياة الإنسانية على مستوياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفلسفية، وتُعمّق شعور الإنسان بضرورة مراجعة الأفكار والنظم السياسية والاقتصادية القائمة، وإعادة صياغتها بما يناسب مواجهة المستقبل الذي بات غامضًا وأكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. يمكن أن نصف هذه الحقبة بأنها «عصر الأزمات المتتالية»؛ حيث تعصف بالمجتمعات الإنسانية أزمات متتابعة أحدثت تأثيرًا كبيرًا؛ فتداخلت فيه أزمات صحية مثل جائحة كورونا التي تحولت إلى أزمة اقتصادية، وأزمات سياسية مثل الحروب والنزاعات، وأزمات بيئية ومناخية ما تزال تهدد حياة البشرية. تحدّث الفيلسوف الألماني «مارتن هايدغر» عن القلق الوجودي بوصفه حالة تدفع الإنسان إلى إعادة النظر في حقيقة وجوده، وفي سياق حديثنا عن الأزمات وتأثيرها على الإنسان ومجتمعاته؛ فإن الأزمات التي نعيشها -سواء كانت صحية مثل جائحة كورونا، أو بيئية مثل تغيّر المناخ وتأثيراته السلبية، أو سياسية مثل الحروب الظالمة- جميعها تولّد قلقًا جمعيًا ينقل القضايا من حيّز الجدل النظري إلى ميدان المواجهة المباشرة، ويبرز هنا دور الفلسفة في المحاولة للإجابة على الأسئلة الكُبرى التي تطرحها هذه الأزمات مثل: كيف نفهم الإنسان وعلاقته بالوجود غير المستقر؟ وما حدود الأخلاق والمسؤولية الجماعية التي يمكن أن تخرج عن أطرها الإنسانية؛ فتكون سببًا في صناعة الأزمات؟
تتراكم مثل هذه الأزمات بدءًا من التوترات الجيوسياسية التي تهدد استقرار دولٍ بأكملها، ومرورًا بسباق التسلّح التقني والرقمي الذي يمكن أن يرسم ملامحَ صراعاتٍ مستقبلية أكثر تطرفًا وعنفًا، ووصولًا إلى الأزمات المناخية والصحية المتلاحقة التي تضع البشرية أمام سؤالٍ مصيري: هل نحن قادرون على حماية الكوكب الذي نعيش عليه؟ في خضمّ هذه التغيرات، يتضح أن المجهول سيد الموقف؛ إذ تتراءى أمام الشعوب والدول تحدياتٌ جديدة تتطلب إعادة قراءة جادة للسياسات العالمية على أسسٍ فلسفية عميقة، وتُعيد الاعتبار للسؤال الإنساني الجوهري: كيف ينبغي لنا أن نعيش في عالمٍ يتداخل فيه الاضطراب مع الفرص المحتملة؟ لا يُقصد بـ«المجهول» هنا باعتباره مستقبلًا مبهمًا أو سيناريوهات مفتوحة وحسب، ولكنه حالة من الضبابية تزحف إلى عمق البنى السياسية والاجتماعية؛ فتنخر المجتمعات الإنسانية وتصيبها في مقتل مع تتابع الأزمات وتراكم تأثيراتها؛ فتصاعد وتيرة الأزمات يكشف عن ضعفٍ هيكلي في المنظومة العالمية تجاه تفعيل النظام الأخلاقي والاستشراف والتخطيط الإستراتيجي، وإذا نظرنا إلى هذا المجهول بعينٍ فلسفية؛ سنكتشف أنه ليس مجهولًا نابعًا من فراغ، ولكنه نتيجة تراكم حاد لمشكلات ظلت تراوح مكانها لسنوات لأسباب منها غياب العدالة الدولية والمساواة الاقتصادية وعدم تكافؤ ميزان القوى في العالم؛ فتطغى قوة واحدة؛ لتفرض كل ثقلها الاستبدادي على معظم دول العالم؛ فتصنع من ذلك رؤية مستقبلية مجهولة الطريق، ونلحظ نشاط بعض القوى الكبرى في رسم مشروعات نفوذٍ عابرة للحدود عبر الاستثمارات الضخمة أو المنظومات الأمنية غير الواعية لإرادة الشعوب الأخرى أو التي تأتي بواسطة الحروب والقهر العسكري؛ لنرى أنّ المجهول ينبثق من فعل الإنسان نفسه؛ فهو سلاحٌ ذو حدين إن لم يُعالج بسياسة الردع ووجود عصبة أمم فاعلة تحمي النظام الإنساني وقيمه وعبر كبح جماح الغرور البشري الذي لا يتقيّد بالمبدأ الأخلاقي والقوانين الإنسانية والدينية؛ فإنه سيستمر في التفاقم ليقود العالم نحو مزيد من عدم اليقين ومزيد من القادم المجهول.
عبر ما سبق قوله في السطور الآنفة؛ فيمكننا القول ان الفلسفة كانت وما تزال ملاذًا يلوذ به الفكر الإنساني متى واجه المنعطفات التاريخية الحاسمة؛ فتظهر -مثلا- قراءتنا للفلسفة الإغريقية أن الأزمات تعود بالإنسان إلى جذور الأسئلة الكبرى المتعلقة بالحياة والموت والعدالة والحرية، ونأخذ مثالًا لسقراط وحياته في أجواء سياسية مرتبكة بأثينا؛ ليصنع من التساؤل المستمر طريقًا للوعي الذاتي الجمعي، وكشف عبر حواراته مع المجتمع عن الخلل الذي أصاب مفاهيم العدل والفضيلة في المدينة، ونحتاج أن نتعلم الدرس نفسه في عصرنا الحالي عبر منهج فلسفي حديث مثل مشروع فيلسوف العرب المعاصر طه عبدالرحمن الذي استطاع أن يستخرج فلسفة أخلاقية إسلامية صالحة لحل مثل هذه الفوضى في العالم؛ فالعالم بحاجةٍ إلى إعادة صياغة لمفاهيم السياسة والحرية والعدالة الاقتصادية؛ لتتقاطع مع المستجدات وتتجانس وتواجه التحديات المستقبلية. ينبغي لنا أن نولي اهتمامًا خاصًا للفلسفة العملية التي تزاوج بين النظرية والتطبيق؛ لأنها تسعفنا في تفسير التناقضات التي تعصف بسياسات العالم ذي القطبية الواحدة التي تتمثل في وقتنا بقطبية الصهيونية العالمية المستبدة التي لا تؤمن بوجود الآخر وحقه في الحياة ومواردها، وكذلك نستحضر منطلقات فيلسوف المجتمع العادل «جون رولز» صاحب «نظرية في العدالة» التي ترتكز على الإنصاف والتوزيع العادل للموارد في المجتمعات الإنسانية الداعية إلى إعادة النظر في هذه المنطلقات الأخلاقية في ضوء التطورات الرقمية واختلاف موازين القوى الاقتصادية، وتدعونا مثل هذه النظريات القديمة والحديثة إلى صياغة مقاربات جديدة لمبدأ السياسة الدولية وعلاقتها بالمجتمعات الإنسانية ومصالحها الجمعية.
تتسع دائرة الأزمات ومسبباتها؛ فتشمل التطور التقني المتسارع الذي يخفي كثيرًا من المجهول لا يطفو على سطحه الظاهر إلا القليل، وخصوصًا فيما يتعلق بمشروعات الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات والتعديل الجيني، وسبق أن رأينا كيف أسهمت التقنية بشكل مزدوج إبان جائحة كورونا؛ فمن جهة أسهمت في تطوير اللقاحات بسرعة قياسية -وإن شابها بعض الغموض-، ومن جهة أخرى كشفت عن اختلال واضح في منظومة العدالة الدولية عندما عجزت بعض الدول الفقيرة عن تأمين لقاحاتٍ كافية لمواطنيها. إنّ هذه الازدواجية تُبرز لنا مدى الترابط بين التقنية والسياسة؛ حيث يمكن لأصحاب النفوذ أن يُطوّعوا الابتكارات التقنية لصالحهم فيما تظل المجتمعات الأكثر هشاشة خارج دائرة الاهتمام. تتعمق المسألة حين نرى أنّ الخوارزميات القادرة على تحليل البيانات الضخمة أصبحت تُوجّه -ولو بشكل غير مباشر- عملية اتخاذ القرار السياسي والعسكري؛ إذ أثبتت التقارير والدراسات تداخلا كبيرا للخوارزميات مع حملات إعلامية أو انتخابية عبر جمعها لنتائج نفسية واجتماعية وتحليلها؛ لأجل استمالة الرأي العام، ونجدها أداة إجرام في الحروب عبر التجسس والقتل، وفي هذا المنحنى الذي يقودنا إلى المجهول، نستدعي تساؤلات «ميشيل فوكو» في تحليله للسياسة وسلطتها: «من الذي يتحكم في من؟ وهل التقنية صورة جديدة للسلطة أم مجرد أداة في أيدي القوى التقليدية؟». ما تزال مثل هذه الأسئلة ملحّة في زمن الهيمنة الرقمية مع تصاعد الأصوات المطالبة بحماية الخصوصية وضبط مسارات الذكاء الاصطناعي ضمن أطرٍ أخلاقية عادلة.
إنّ المجهول الذي يخيّم على السياسات العالمية ليس قدرًا محتومًا، ولكنه نتاجٌ لتراكمات أخطاء تاريخية وتنازعاتها، وبإمكاننا تفكيكها وتحليلها إذا ما سلّطنا عليها الضوء الفلسفي، ولن يتحقق ذلك إلا بطرح الأسئلة العميقة المتعلقة بماهية العدل والسلطة والمسؤولية، ودراسة انعكاسات التحولات التقنية على الإنسانية، وتوجيه بوصلة الدبلوماسية العالمية نحو أفقٍ أكثر تعاونًا وعادلة وبعيدا عن استبداد القطبية العالمية الواحدة التي لا ترعى حقوقا للمجتمعات الإنسانية ولا تقيم وزنا لمطالبها، واستخراج مبادئ أخلاقية صميمة من العمق الديني الصحيح وتفعيلها بمنهج فلسفي حديث، ونجد أن الجواب الأكثر ملاءمةً لمعضلة المجهول ليس بالضرورة أن يكون في اللجوء إلى القوة أو الانكفاء على السياسات القومية الضيّقة، ولكنه في تبنّي رؤية إنسانية شاملة توفّق بين الأسس الفلسفية والحاجات الواقعية، وحينها نضمن أن خطواتنا نحو المستقبل لن يُعكّر صفوها توحّشٌ سياسي أو عشوائيةٌ تقنية تفوق قدرتنا على الضبط؛ فنكون بذلك عبرنا جسور المخاوف ووضعنا الأجيال القادمة على عتبة عالمٍ أكثر وعيًا وإنصافًا واستعدادًا لمواجهة كل ما يحمله المجهول.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
0 تعليق