معاوية شاغل الناس

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

ما ان انطلق عرض مسلسل (معاوية) بداية شهر رمضان في قناة (mbc) حتى احتدم الجدل واشتد النقاش وتضاربت الآراء حوله وهو يصور حياة الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان. يعود الجدل في الأصل إلى طبيعة المرحلة ومنزلة الشخصيتين الرئيسيتين فيه، الأولى علي بن أبي طالب الذي له منزلة خاصة في قلوب المسلمين بحكم قربه المباشر للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، والآخر معاوية بن أبي سفيان الشخصية الجدلية والإشكالية وصاحب الحضور الطاغي في التاريخ الإسلامي الذي ينظر إليه بأنه ساهم في تأجيج الصراع مع سيدنا علي بن أبي طالب واستخدم مقتل عثمان في الوصول للسلطة بالحيلة والخداع (التحكيم)، كذلك ينظر لمعاوية بأنه هو من أرسى دعائم نظام ملكي وراثي ورّط به الأمة ولا يزال أثره لهذا اليوم، ونظام ولاية العهد مخالفا اتفاقه مع الحسن بن علي بأن يؤول الحكم له من بعده. وكان سببًا في خلاف المسلمين وإشعال نار التفرقة، لذلك لا يجوز استحضاره؛ لأن ذلك لن يؤدي إلا إلى إذكاء نار الفتنة والتفرقة.

يرتكز الجدل والنقاش بين فريقين، فريقٍ مدفوعًا ومتسلحًا بأفكار ومعتقدات دينية لا تقبل النقاش حول عدم جواز تجسيد شخصيات الصحابة في أعمال درامية فنية، حيث ذهب هذا الفريق إلى تحريم مشاهدة المسلسل، ولا يقتصر ذلك على سيدنا علي وغيره من الخلفاء الراشدين بل يطول كل الصحابة بمن فيهم معاوية وهي نابعة من كون معاوية أحد الصحابة الأجلاء وكاتب الوحي وهو ما يضفي القداسة على تلك الشخصيات وحرمة تجسيدها، رغم أن هناك من يعتقد بأن لا يوجد للحرمة تلك أصل في القرآن أو دليل شرعي وهو ليس إلا آراء فقهية وتفسيرات بين العلماء قد يوافق عليها وقد يختلف، وبدون الخوض في مشروعية هذا الجدل.

لكن ما الذي يستشعره منتقدو تجسيد الصحابة؟ لربما ما يثير ثائرتهم تغير الأفكار والمعتقدات والتحول في المسلمات ويخلخل الفهم الراسخ ويبث فيه الشكوك ولربما إنزال التقديس عن بعض الشخصيات فمثلا عندما يعرض في المسلسل ذلك الحوار الذي دار بين سيدنا علي بن أبي طالب الذي يطالب معاوية بالبيعة ومعاوية لا يرفض ولكنه يشترط أن يتم القصاص من قتلة عثمان وتسليم القتلة ومن ثم سيحصل على البيعة، هذه النقطة بالذات هي ما تعيد التفكير وتشكل الوعي وقد تقلب المسلمات وربما تسجل نقطة لصالح معاوية الذي لا يرفض البيعة ولكن يشترط لذلك القصاص من قتلة عثمان وقد يرى الكثيرون فيه المنطق والصواب حيث لم يطلب الرجل إلا إقامة حدود الله وعدالته في قتلة عثمان وقد يرى فريق أن ذلك جدير بإعادة التفكير بغض النظر عمّن يكون في الطرف الآخر، بينما يرى سيدنا علي ألّا يقتص من القتلة قبل استقرار الأمة أولًا وإلا تكون الفتنة التي بدأها معاوية.

الشيء الآخر الذي يخيف منتقدي المسلسل هو الصورة وتأثيرها الطاغي وترسيخها في أذهان الناس وخصوصًا الناشئة، فعندما يجسد ممثل شخصية أحد الصحابة تنطبع تلك الصورة وتستدعى لا إراديًا كلما ذكر الصحابي فيصبح الممثل هو الصحابي المقدس ولاحقا عندما يرى ذلك الممثل بأفعال غير لائقة أو لا تستقيم فإن الذاكرة تستدعي مباشرة اسم الصحابي وكأنه هو من فعل ذلك ما يؤدي إلى زعزعة وتشوية الصورة الحقيقية للصحابة. لكن كل تلك تبقى في حكم الشكوك قد تقع وقد لا تقع.

بجانب أخطاء الرجل وهفوات كغيره من البشر، لمعاوية أعمال وصفات جليلة لا ينظر إليها إلا عبورًا مكنته من شغل مكانة بارزة في التاريخ الإسلامي، فهو الرجل البراغماتي السياسي المحنك وأحد أربعة من دهاة العرب وكان دهاؤه في الرؤية وبعد النظر ومعرفته، وهو الحليم والمتأني الذي لم يوصف قط بالمتسرع أو المندفع أو المتهور هو كاتب الوحي وهو الذي تلمس فيه عمر بن الخطاب الحنكة والتدبير والسياسة وحاز على ثقته فجعله واليًا على دمشق لمدة عشرين عامًا، وهو الذي أرسى دعائم دولة عربية خالصة وقوية وإمبراطورية وهو صاحب المقولة التاريخية التي يقول فيها: «والله لو كان بيني وبين الناس شعرة لما قطعتها»، وهو الحليم الذي حاز على ثقة وحب أهل الشام وأسس أول دولة مدنية، بجيوشها ودواوينها وحراسها ومخابراتها وقصورها ومراسمها، دولة مدنية عربية خالصة عظيمة لا تزال تذكر وتستحضر إلى اليوم ويتغنى بأمجادها وقوتها. للرجل حضور وكاريزما وله باع طويل في ممارسة الحكم والسياسة، وبالتالي لا ندري أهو سعى للخلافة أم الخلافة هي التي سعت له بتهيئة الظروف والسنن وهو الذي عرف كيف يطوع الأحداث لصالحه.

محورية هذا الجدل والنقاش لا تنقطع كغيرها من الأحداث والشخصيات التاريخية، وهو في الأساس جدلية التاريخ والماضي. التاريخ وسرديته يمثل ملاذا للكثير للبعد عن ترهلات الحاضر وانزياحاته إلا أن ذلك لا يخلو من الانغماس في الجدل كلٌ يريد أن يقرأ التاريخ وفقًا لما يراه هو صحيح.

إن قراءة التاريخ بعيدًا عن التقديس وبمزيد من السلاسة والأريحية بأن يوضع تحت مجهر البحث والتشريح. وفي الحقيقة الخلاف بين الرجلين كله يدور حول الحكم والسلطة وليس في شأن عقيدة أو مس في الإسلام. وبالتالي من حق الأجيال أن تعرف ذلك وتدرك الحقيقة أو تلامسها بأسلوب درامي فني بعيد عن الكتب والمجلدات والمحاضرات. في الجانب الآخر قد يخطئ من يظن أن الدراما التاريخية لا يتم تسييسها وبلورتها لتخدم أيديولوجيا معينة وأغراضا وأهدافا بعيدة كل البعد عن السياق التاريخي لها، لذلك قد لا ينتهي هذا الجدل ولن ينتهي طالما حرفت النوايا والمقاصد وأرجع كل شيء إلى الدين والتقديس والمعتقد.

بدر الشيدي كاتب عماني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق