يقدم خالد فهمي فـي كتابه «كل رجال الباشا» بحثًا فاحصًا ودقيقًا فـي الإيمان بكون محمد علي باشا الذي حكم مصر منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى منتصفه تقريبًا يعتبر باني مصر الحديثة، ومن بين الإنجازات التي قدمها تأسيس الجيش المصري الذي كان منظمًا على نحو عسكري فاق التنظيم العسكري لجيش سلطان الإمبراطورية العثمانية الذي لم يكن الباشا إلا وكيلًا عنها فـي حكمه على مصر والذي يُجدد له كل عام، كما اتبع خطى أهم جيوش العالم تنظيمًا، تحديدًا الجيش الفرنسي الذي دخل مصر مع حملة نابليون الذي تأثر به الباشا كثيرًا.
يقتفـي فهمي فـي بحثه هذا أدبيات مدرسة التابع التاريخية التي نشأت مع مجموعة من المثقفـين فـي الهند التي اخترعت تقاليد فـي كتابة التاريخ ونقده، بالإضافة لاعتمادها على الهامش وأصوات المهمشين فـي كتابة التاريخ، أي أن التاريخ لا يتحرك بالضرورة من الأعلى «رأس الهرم» بل من الأسفل. وبهذا فإن خالد فهمي لا يبحث فـي مرحلة محمد علي باشا عبر الكتب والسرديات التي سمح بها الباشا لتقديم صورته للعامة، ولا بالطريقة التي كتبَ فـيها الرحالة والمستشرقون الذي استضافهم بنفسه فـي بلاطه. ولا الطريقة التي عبرَ فـيها عن فترة حكمه لمصر علانية. بل يذهب فهمي ليكون «جنديًا» متخيلًا، والجندي هو المرتبة الأدنى فـي تنظيم الجيش، ممن كونوا جيش محمد علي باشا، الذي حارب الوهابية فـي الحجاز، وحارب عن العثمانيين فـي السودان وفـي قبرص، كما خاض حربًا ضد العثمانيين أنفسهم فـي سوريا التي يُعدها الحدث الأهم والأبرز فـي تاريخ جيشه خصوصًا بعد حصارهم لقلعة عكا قبل استسلامها لهم.
تدعيّ سردية «باني ومؤسس مصر الحديثة» أن محمد علي باشا حكم مصر بهدف استقلالها عن الدولة العثمانية، وبأنه رأى فـي مصر خصوصية كونت «الشعور القومي» بالانتماء لمصر، وذلك عبر الجيش الذي وضع حدودًا للهوية الوطنية المصرية، وقدم للعامة فرصة للدفاع عما سيعرُف أنه وطنهم الأوحد، الذي يشتركون مع من فـيه على مُثل وطموحات وحياة ومصير واحد. الأمر الذي حدث بعد الثورة الفرنسية للفرنسيين، فما الذي يعنيه حقًا أن تكون فرنسيًا؟ أو تكون مصريًا فـي هذه الحالة. كما تدعي أنه تمكن وبحكمة منه من تأسيس جيش عظيم ومنظم، يعتمد على كل الاستراتيجيات الحديثة فـي تكوين الجيش النظامي بل وتتفوق على تلك القادمة من أوروبا.
إلا أن ما تسكت عنه هذه السردية: أولا الحملات التي خرجت بأمر من علي باشا لاختطاف العبيد من السودان بهدف تجنيدهم، والرحلة التي قطعوها مكدسين فـي سفن عبر البحر، لينفق كثير منهم لعدم احتمالاهم ظروف «شحنهم» غير الآدمية، أو لعدم تحملهم الحياة بعد وصولهم بهدف تأسيس الجيش المصري، وبعد فشل هذه الحملة فـي أن تغطي تكاليف تشغيلها إذ إن المحصلة النهائية أكدت أن خسارة محمد علي باشا وحملته فاقت بكثير النتيجة التي توصلت إليها فـي العدد الذي حصدته من رؤوس العبيد فـي السودان اتخذ طريقًا آخر. إذ لم يثنِ هذا من عزيمة محمد علي باشا فـي إنشاء الجيش الأعظم، وبما أن الفلاحين ما كان بالإمكان أن يلتحقوا بجيشه فقد قام باختطافهم من أراضيهم وعائلاتهم. وفـي عمليات الخطف هذه، عمل على تكريس استراتيجيات تجبرهم على الامتثال لأوامره، بحيث تعيد هذه الاستراتيجيات إنتاج نفسها فـي كل مرة بما يضمن سير عملية الضبط هذه على نحو سلس فـي المرات القادمة. ويقدم لنا فهمي عبر هذه الدراسة كل هذه الاستراتيجيات مثل وشم أذرع الفلاحين ممن حاولوا الهرب وصولًا للقوة غير النظامية التي كانت تقف وراء جيشه لقتل كل من تسول له نفسه الانسحاب من المعركة. ويعتمد فهمي على مطابقة هذه الاستراتيجيات مع ما طرحه ميشيل فوكو فـي كتابه «المراقبة والمعاقبة».
عبر كل هذه القصص التي نعرف من خلالها كيف كون محمد علي باشا جيشه العظيم، نشاهد فـي المقابل الطرق التي اخترعها الفلاحون للمقاومة. إذ تؤكد دراسات ما بعد الاستعمار أن المقاومة لها أشكال عديدة مستمرة وهي من جنس السلطة، وفـي حالة الفلاحين فلقد تسببوا فـي عاهات جسدية لأنفسهم إن تطلب الأمر لاستبعادهم من الجيش. فبعد أن هربوا بعائلاتهم من قراهم وأراضيهم فور وصول شائعات اقتراب جيش محمد علي - المكون من «الألبان» الذي سيكون لهم حظوة بتسيدهم على الفلاحين ـ وصولًا لمن تسبب بالعمى لنفسه لكي لا يتم تجنيده، أو قطع أصابعه، أو أحد أطرافه إن تطلب الأمر. استمر الفلاحون قبل لحظة تجنيدهم وأثنائها بخلق أساليب مقاومة تبرهن على أنهم لم يقبلوا مشروع علي باشا وطريقته فـي إثبات نفسه.
ولا يتعلق الأمر بقصص هؤلاء الفلاحين التي تثبت تعنت واستبداد ووحشية محمد علي باشا فحسب، بل تبرهن قصص أخرى على ما اعتبره صالحًا قوميًا لم يكن إلا تحقيقًا لمصالحه الشخصية، ورغبته فـي التوسع أولًا، وفـي تعيينه رسميًا واليًا أبديًا على مصر، إذ كان السلطان يُجدد له كل سنة حكمه عليها، كما طالب محمد علي باشا بأن يكون حكم مصر فـي سلالته وحدها!، وكان يُحس بعظمته هو نفسه كسليل عثماني فـي مقابل العرب البرابرة الذين يحكمهم كما يعبر هو نفسه فـي أكثر من مناسبة استبعدتها السردية التي تقدمها السلطة.
يقدم لنا هذا الكتاب نموذجًا رائعًا فـي قراءة التاريخ عبر مدرسة التابع، ويمنحنا منظورًا نستبصر به المخفـي من السرديات الشائعة والمكرسة، وما تنطوي عليه من قصص قامت على أجساد المهمشين والضعفاء.
0 تعليق