العيد والطيران.. لحظات لا تُشترى بل تُعاش

عكاظ 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
‏في الأعياد تكون للمطارات نكهة مغايرة، تصبح كأنها ساحات معارك وجدانية تحزم فيها الحقائب لا هرباً بل شوقاً.

‏الأعياد هي «المواعيد» التي تنتظرها الأرواح المتعبة، و«مواسم العودة» ليس للديار فقط بل للطفولة التي تركض في ممرات الذاكرة، ومنذ أن صار الطيران شبابيك العالم أصبحت الطائرات أجنحة فرح تحملنا من الواقع البارد إلى الضفاف الدافئة.

‏في الماضي كان السفر بالأعياد ترفاً نادراً، ثم جاء الطيران ليقرّب المسافات ويمنح الأعياد آمالاً محلقة بالبهجة، تصطف الطائرات على البوابات مثل قوافل السحب البيضاء التي تحمل هدايا العشب.

‏في كل عيد هناك أسرة تنتظر غائبها، عاشق يحصي الدقائق، وأمُّ في صدرها دعوات لا تسمع، في كل عيد تختلف الحسابات، فالعدد لا يقاس بالرحلات بل بالقلوب التي تنبض في المقاعد والعيون التي ترقب النوافذ باحثة عن أضواء المدن التي اشتاقت لها طويلاً.

في كل عيد هناك من لا يحتفل في بيته ولا يتناول الإفطار مع عائلته، إنهم الذين اختارهم القدر ليكونوا جزءاً من فرحة الآخرين..

الطيارون الذين عاكسوا ليالي الأعياد وصباحاتها فاضطرّوا أن يناموا باكراً ليستيقظوا فجراً، تسطع في جباههم أشعة الشمس وهم يحلِّقون فوق البحار والمدن ليصل المسافرون إلى أحبتهم في الوقت المناسب، قلوبهم معلقة في أماكن أخرى لكنهم يتقنون مهماتهم وكأنها تراتيل تصنع للناس فرحة مكتملة.

‏الملاحون الذين يوزعون الابتسامات في المقصورة وكأنها حلوى؛ يهمسون بالترحيب وتتوق أرواحهم لصوت التكبير في مسجد الحي.

‏على الأرض هناك كثيرون قد لا نراهم لكننا نعرفهم، المراقبون الجويون الذين تشكّل أصواتهم بوصلة الطريق، يراقب أحدهم النقاط المتحركة على الشاشة كما يراقب الطبيب نبض الحياة، كل نقطة تمثل طائرة وكل طائرة تمثل مئات الأرواح، ينسجون خيوط الأمان في شبكة السماء حتى يعبر الجميع بسلام، منطقهم أن الفرح يستحق أن تتعب من أجله حتى لو حلّق في غير اتجاهك.

هناك ‏أيضاً موظفو المطارات من رجال أمن وجوازات وإطفاء إلى موظفي الاستقبال وعمال الأمتعة وغيرهم، كل واحد منهم له حكاية شوق لكنه في يوم العيد يعمل بابتسامة مواربة وقناعة تامّة أن العمل في هذا اليوم له قدسية خاصة.

‏هم لا يسمعون (كل عام وأنتم بخير) من عائلاتهم بل يسمعونها من مسافر غريب قالها بعفوية عابرة وهو لا يدرك أنه أشعل شمعة فرح.

(العيد ليس مجرد يوم)، إنه لحظة فاصلة في عمر الزمن تتوقف فيها رتابة الإنسان ليلتقط أنفاسه بعد الركض، وكأن العيد استراحة بين رحلتين أو بوابة عبور من التعب إلى الفرح.

‏و(الطيران ليس مجرد وسيلة نقل) إنه رمزية التجاوز، التحرر من الأرض، الانطلاق في الأفق، نوع من الانفصال المؤقت عن العالم، وبين «اللحظة الفاصلة» و«الانفصال اللحظي» يتعانق العيد والطيران كأنهما يكتبان إجابة السؤال: إلى أين نعود؟

‏الجمال في العيد ليس بالزينة فقط، إنه في التكبيرات التي تتسلل إلى البيوت، في رائحة القهوة الممزوجة بضحكةٍ صغيرة، في لقاء جار عند الباب، في اللمسة التي ترمم ما هدمته الظروف، في الموائد العامرة بالمحبة، في أن ترى النور بوجه أمك والرضا في نظرة أبيك.

و‏الجمال في الطيران لا يلتقط بالعين أو الأذن فقط، بل بالحسّ الذي يتسع مع الارتفاع، أن نكتشف كم هو صغير العالم ونحن نحلّق وكم هي قلوبنا كبيرة حين نشتاق.

‏جمال الطيران أنه تجربة حسّية تعيد تعريف علاقتك بالمسافة والزمن والحياة.

‏الجمال في العيد والطيران، هو الشعور بأنك محاط بلحظات لا تُشترى بل تُعاش، وأنك مع كل سفر تقترب أكثر من ذاتك من أحبابك من الله.

‏العيد يعدك أن الحياة يمكن أن تبدأ من جديد حتى بعد حزن أو خصام أو تعب، والطيران يعدك أن هناك دائماً مكاناً آخر وفرصة أفضل وأفقاً أوسع، كلاهما يخاطب فيك الحالم المرهق ويقول هناك ما يستحق الفرح.

‏الطيران أعياد معلقة في الهواء، والأعياد سفر داخلي نحو السلام، كلّ عام وأنتم بخير.

أخبار ذات صلة

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق