توفيق السباعي
في زمن يتسارع فيه التغيير، ويعلو فيه صوت المعرفة على ضجيج الجهل، لم يعد التعلّم حكراً على المؤسّسات التعليميّة أو قاعات التدريب. بل أصبح نمطاً عميقاً من أنماط الحياة، يرافق الإنسان في كلّ لحظة من لحظاته، ويمنحه قدرة مستمرّة على النموّ والتكيّف والتطوّر. فالتعلّم لا يعني فقط اقتناء الكتب أو حضور المحاضرات والدروس، بل يتجاوز ذلك ليغدو سلوكاً داخليّاً، يفتح أعيننا على كلّ ما يمكن أن يعلّمنا شيئاً، حتّى وإن لم يُقدم على شكل درس مباشر.
نتعلّم من الأصدقاء حين نراهم يحتضنون الفرح، ونتعلّم من الأعداء حين نرصد كيف يحفّزنا التحدّي على المضيّ قدماً. وكم من طفل أدهشنا بفطرته البسيطة، فأيقظ فينا وعياً نائماً، أو مشهد عابر نكأ سؤالاً في أعماقنا، أو حتّى شعور مؤلم نبّهنا إلى حقيقة غابت عنّا. التأمّل في الذات والخبرات السابقة، وحتّى الأخطاء المؤلمة الّتي لطالما تجنّبنا مواجهتها، تشكّل في مجموعها مناهج تعليميّة صامتة لكنّها فعّالة، فقط إذا كنّا مستعدّين للإصغاء والتأمّل.
وتتجلّى هذه الفلسفة بشكل رائع في حياة العالم الفيزيائيّ الشهير ستيفن هوكينج، الّذي تحدّى الزمن والجسد والمرض ليستمرّ في التعلّم والعطاء حتّى اللحظة الأخيرة من حياته. أصيب هوكينج في سنّ الحادية والعشرين بمرض التصلّب الجانبيّ الضموريّ، وأخبره الأطبّاء بأنّه لن يعيش أكثر من بضع سنوات. إلّا أنّه، وعلى الرغم من فقدان الحركة التدريجيّ، وكونه أصبح عاجزاً عن الكلام إلّا عبر جهاز إلكترونيّ، رفض التوقّف عن التعلّم والتفكير والبحث.
لم تمنعه إعاقته الجسديّة من أن يصبح أحد أعظم عقول الفيزياء النظريّة، وأن يكتب كتباً غيّرت نظرتنا إلى الكون مثل «تاريخ موجز للزمن»، وأن يشارك في مؤتمرات، ويلقي محاضرات، ويلهم أجيالاً من العلماء والمفكّرين. لقد جعل من المعرفة وسيلة للبقاء، ومن الفضول العلميّ طاقة تتغلّب على عجز الجسد. كان يرى أنّ العقل هو الشيء الوحيد الّذي لا يعرف حدوداً، طالما استمرّ الإنسان في طرح الأسئلة.
كذلك التعلّم الحقيقيّ لا يقوم فقط على التلقّي، بل على الوعي بالمصدر، وفهم الرسالة الكامنة، وتحليل السياق والهدف. ففي عالم تغمره المعلومات، وتختلط فيه النوايا، بات لزاماً على من يسعى إلى تنمية ذاته أن يتحلّى ببصيرة نقديّة، تمكّنه من التمييز بين من يعلمه لينمّيه، ومن يعلمه ليقيّده، بين التجربة الّتي تنضج الفكر، وتلك الّتي تربك القناعات.
وهنا يكمن الفارق الجوهريّ بين المعرفة السطحيّة، والمعرفة المتعمّقة الّتي تُبنى بالتراكم والتأمّل والمراجعة. فالحياة تقدّم لنا الدروس على نحو مستمرّ، بعضها يأتي مغلّفاً بالنجاح، وبعضها الآخر مغطّى بالألم، لكنّ الذكيّ هو من يملك المرونة الذهنيّة والروحيّة ليحوّل كلّ موقف إلى فرصة تعلّم.
إنّ من يتبنّى هذه الفلسفة لا يشيخ فكريّاً أبداً، بل يظلّ متجدّداً، حيّاً، متأهّباً لكلّ جديد، مهما بلغ من العمر، أو بلغت خبرته؛ لتبقى الدروس الّتي لا تقال هي الّتي تصقل شخصيّاتنا، وتشكّل جوهر حكمتنا، وهي الّتي تجعل من خبراتنا نسيجاً ثريّاً يغلّف أرواحنا، ويرفعنا نحو أفق أبعد من مجرّد الوجود. وكأنّ الحياة تخاطبنا دون أن تنطق، وتعلّمنا دون أن تلقي محاضرة واحدة؛ تاركةً مهمّة التقاط الإشارات وترجمة المعاني الخفيّة لمن لديه الاستعداد ليقرأها، ليفهمها، ليحوّلها إلى معنى ووعي وحكمة متجدّدة لا تنتهي.
0 تعليق