يمثل سقوط نظام الأسد نهاية فصل كبير في الوجود الروسي في الشرق الأوسط. ولكن هذا لا يعني أن موسكو على وشك الانسحاب من المنطقة. فقرارها بعدم القتال من أجل نظام بشار الأسد ـ واللجوء بدلا من ذلك إلى نقله جوا إلى موسكو التي يظهر أنه باق فيها في الوقت الراهن - يبدو أشبه بمحاولة لتعزيز وجودها في الشرق الأوسط من خلال التخلص من أحد الأصول السامة.
في عام 2015، كان نشر القوات الروسية في سوريا بهدف دعم نظام الأسد علامة فارقة في تاريخ العلاقات الروسية مع الشرق الأوسط. فقد أعلنت موسكو جهارا، إذ فعلت ذلك، عودتها إلى السياسة في الشرق الأوسط الذي ضعف وجودها فيه بشدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. فللمرة الأولى منذ عام1991، أجرت موسكو عملية عسكرية كبرى في المنطقة. فلم يقتصر التدخل العسكري الروسي في سوريا على إنقاذ نظام صديق من الانهيار الحتمي فحسب، لكنه أظهر استعدادا للقيام بدور نشط في تشكيل عمليات إقليمية تتجاوز سوريا. وبمعنى ما، باتت التجربة السورية مقدمة ضرورية لتدخل أكثر نشاطا من موسكو في ليبيا والسودان وأفريقيا ما دون الصحراء.
لقد أوشك أن يؤدي الربيع العربي في ما بين 2010 و2012 إلى نهاية تامة للبقية الباقية من شركاء موسكو الذين ورثتهم عن الاتحاد السوفييتي في المنطقة. ثم جاءت العملية السورية، في المقابل، فلم تحافظ فقط على بقاء نظام دمشق الموالي لموسكو في السلطة وتعزز علاقات روسيا مع إيران، لكنها أرغمت أيضا بلادا أخرى في الشرق الأوسط على اعتبار روسيا لاعبا مهما. وهكذا، أصبح الوجود العسكري الروسي في سوريا أحد العوامل التي أدت إلى تكثيف حوار موسكو مع الممالك العربية في الخليج وإيجاد بند آخر في أجندة علاقات موسكو مع مصر والعراق وتركيا. ومنذ ذلك التدخل العسكري، نشطت روسيا في وضع نفسها في موضع ضامن الاستقرار والحماية للأنظمة الموالية (الدكتاتورية في العادة) من التهديدات الخارجية والداخلية. وعلاوة على ذلك، رسمت آلة الدعاية الروسية طوال الوقت أوجه تشابه بين الأسد ومصير حسني مبارك في مصر، قائلة إن موسكو داعم أفضل ونصير أضمن من الولايات المتحدة.
أما عن الولايات المتحدة والغرب بصفة أعم، فقد أنشأت تصرفات موسكو قناة اتصال أخرى لموازنة تحجيم الاتصال منذ ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014. إذ كانت رسالة الكرملين بسيطة: شئتم أم أبيتم، روسيا فاعل مهم وعلى الغرب أن يتحدث معها ولو لإيجاد آليات لتجنب المصادمات العارضة بين القوات الروسية والأمريكية في سوريا.
وأخيرا، قدَّر الكرملين أيضا أن جهوده، فضلا عن جهود زمرة رجال الأعمال الروس المقربين من السلطة مثل يفجيني بريجوزين، لإنقاذ الأسد سوف تثاب عاجلا أم آجلا بنيل قطعة من «كعكة الاقتصاد» السورية. ثم جاء سقوط الأسد فبدَّد هذه الخطط إلى الأبد.
بعد وقت قصير من بداية هجوم المعارضة على حلب في نوفمبر 2024، قررت روسيا بوضوح وعن عمد أنها لن تنقذ الأسد. ويميل المحللون إلى تفسير هذا الموقف في ضوء حرب موسكو في أوكرانيا التي لم تسمح لروسيا باتخاذ رد فعل في وقت مناسب وبطريقة مناسبة على الهجوم الجديد الذي شنته قوات المعارضة السورية. ولم يكن هذا يتعلق فقط بتضاؤل عدد القوات وإنما بتضاؤل جودتها أيضا، إذ تحولت سوريا إلى ما يشبه مخزنا لكبار العسكريين الروس الذين يفقدون عطف موسكو وللضباط الراغبين في الهروب من حرب أوكرانيا. كما ضعف حلفاء روسيا والأسد الرئيسيون ــ أي إيران ووكلاءها ــ بسبب مواجهة طهران لإسرائيل.
وفي حين أن أغلب هذه الأقوال صحيح، فهي تغفل عاملا مهما آخر: إذ تحولت سوريا، بحلول عام 2024، من فرصة لروسيا إلى عبء اقتصادي وسياسي عليها. فقد فقدت سوريا أهميتها بوصفها أحد أصول فرض النفوذ في المنطقة. وفي غضون ثماني سنوات من تدخل روسيا، ظهرت مجموعة عوامل جديدة - وأكثر أهمية - شكلت علاقات الكرملين مع المنطقة. تضمنت هذه العوامل دور روسيا في أوبك، وزيادة التجارة والدبلوماسية المكثفة. كما فقدت سوريا أهميتها السابقة بوصفها عنصر اتصال مع الغرب: إذ أدت حرب أوكرانيا إلى تقليص الاتصال وأصبحت موضوع المناقشة الرئيسي مع روسيا. وتحول اقتصاد الحرب الذي أنشأه الأسد إلى بيئة سامة لدرجة أن رجال الأعمال الروس أنفسهم ممن ألفوا العديد من التحديات لم يتمكنوا من العمل التجاري فيها. وفي الوقت نفسه، تسبب عناد الأسد السياسي، ورفضه التسوية مع المعارضة المحلية ومع الجيران في المنطقة، والعمل المتوازن المستمر بين موسكو وطهران، إلى أن أصبح نظام الأسد شريكا صعبا.
في الوقت نفسه، بدأت تظهر على الاقتصاد السوري، الذي تدفعه إلى حد كبير تجارة المخدرات غير المشروعة ومخططات الفساد، علامات متزايدة على الانهيار الوشيك. وبلغ يأس الشعب، وانعدام الدافع لدى الجيش، والعدمية لدى أجهزة المخابرات مستويات كبيرة، فتحول النظام إلى دولة «جوفاء» بغير قاعدة دعم صلبة. وبحلول شهر ديسمبر من العام الحالي، باتت روسيا في مواجهة اختيار: إما تكرار مصير الاتحاد السوفييتي في أفغانستان بتحمل المسؤولية المالية والاقتصادية والعسكرية الكاملة عن سوريا الأسد (وهو أمر يكاد يكون مستحيلا في ضوء الجهود الحربية الروسية في أوكرانيا)، وإما التراجع. وجاء الاختيار في صالح الخيار الثاني: فقد فتح سقوط الأسد، مهما بدا أليما، فرصة لموسكو للخروج من الصراع المطول، الذي باتت أرباحه تقل وتقل.
سيكون على الكرملين أن ينسى أي عائد للجهود التي استثمرها في سوريا، ولكنه قد يحاول طبعا الاحتفاظ بقواعده العسكرية في البلد. ولقد أوضحت السلطات السورية الجديدة تماما أنها مستعدة للتحدث مع الكرملين وأنها لا تتعجل طرد جيشه من أراضيها. وعلى المستوى الإقليمي، كما سبقت الإشارة، أصبحت أجندة علاقات موسكو بالمنطقة شديدة الاتساع لدرجة أن فقدان سوريا، وإن يكن مزعجا، بعيد كل البعد عن أن يكون العامل الحاسم في قوة وجودها في المنطقة.
0 تعليق