بدر علي قمبر
الحديث عن غزة وأحوال أهل غزة حديث ذو شجون، أسميته «حديث النفس»، فهي أحوال لم تمرّ علينا من قبل، منذ نعومة أظفارنا. فغزة اليوم كتبت لنا رسائل للنفس كثيرة، تجعلنا نعيد التفكير في ترتيب أوراق حياتنا، وفي إعادة صياغة طريقة تفكيرنا وأسلوب حياتنا، فلم تعد الأيام المتشابهة مجدية في تحقيق غايات النجاح والتأثير، ولم تعد الأوقات العادية كفيلة بأن تجعلنا ننهض بما عجزنا عن تحقيقه في سنين أعمارنا.
احترت كثيراً، ومنذ بدء أحداث غزة، كيف أكتب سطورها، وأرتب أحداثها، وأستخلص منها العِظات التي تنفعنا وتنفع الأجيال في حياتها. وحتى هذه اللحظة، أحسست بأني لم أصل بعد إلى مبتغاي، وإلى الأسلوب الأمثل لصياغة فصول هذه الحكاية المؤلمة، التي أحيت موات الأمة كلها، وأحيت موات القلوب، وأحيت روح الضمائر النائمة، التي لم تصحُ بعد من نومتها الساذجة.
وإن كنت قد صغتُ بعض السطور سابقاً، فإن هذا الأمر راودني بشعور بأن أكتب «حكاية غزة» على هيئة سطور خاطفة، وأحوال لربما نعرف ملامحها ونتحدث عنها، ولكني آثرت أن أكتبها هنا، لأذكّر نفسي أولاً قبل الآخرين، حتى أزكيها في حياة الخذلان.
(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها). النفس التي يجب أن نُصلحها، ونصلح قلوبنا ونيّاتنا. قال أويس القرني: «إذا قمتَ، فادعُ الله أن يُصلح قلبك ونيّتك، فلن تعالج شيئًا أشد عليك منهما». وقال سفيان: «ما عالجتُ شيئاً أشدّ عليَّ من نيّتي، لأنها تتقلّب عليَّ».
من هنا، فإن الرسالة الأولى التي صاغتها غزة هي أن نصلح النيّات والقلوب، لأنها طريق الخلاص من مُدمّرات الإيمان، وهي التي تُوصل بصاحبها إلى ابتغاء مرضاة المولى الكريم، والثواب منه، والنجاة من غوايات الشياطين. فأهل غزة تتجدّد في نفوسهم هذه المعاني في كل لحظة، وهم يُهجَّرون من ملاذهم الآمن إلى ملاذ مجهول، وقد فوضوا أمرهم إلى الله تعالى بأن يكون هو الآمن لهم.
كتبت لنا غزة التأمل في النِّعَم التي أنعم الله بها علينا، وأن نرفع كفوف الضراعة بالحمد والشكر على كل نعمة أنعمها علينا في قديم أو حديث، أو خاصّة أو عامّة، أو سرّ أو علانية. نحمده على نعمة الأمن والأمان، وعلى عافية الأبدان، والمسكن، والرزق، وعلى أنفاس الحياة، وعلى نعمة المساجد التي دُمّرت على أرض غزة، وعلى نعمة الأهل والأحباب والأصحاب. ونتذكّر هنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمناً في سربه، مُعافًى في جسده، عنده قوتُ يومه، فكأنّما حيزت له الدنيا». نعم، قصرنا في حمدها، وبخاصة عندما نرى تلك الأحوال المزرية غير الآمنة التي يعيشها أهلنا في غزة. فالحاجات التي ذُكرت في الحديث حاجات أساسية للإنسان، وبدونها لا يستطيع أن يعيش، وإن عاش، فعلى التيه والتشريد والشقاء، والعياذ بالله. فاللهم لك الحمد حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه، على ما أنعمت به علينا من نِعمك التي لا تُحصى.
رسالة «المشاعر الحنونة» التي لا يجب أن تغيب عن أنظارنا، وألا نستبدلها بتلك المشاعر المُضطربة الشيطانية الغاضبة، التي تُنسي المرء كل شيء، وقد تفقده محبة أقرب القلوب إليه. هناك، في غزة، يفتقدون في كل لحظة أحبابهم، ولا يعلمون مَن عليه الدور القادم في الرحيل. ونحن هنا نستنشق عبير الأمن والأمان، وفي المقابل يعيش بعضنا في مساحات المهاترات والهجران، واضطراب العلاقات الأسرية، والعنف القولي والجسدي، ومساحات «الزعل»، ولعل البعض يرحل وفي قلبه، أو قلب من يُحبّه، «ذرات من الزعل أو الخصومة»، وهنا سيكون اللوم النفسي الذي لن تنمحي آثاره من القلب أبداً ما حيينا.
ما أجمل أن نتعامل بالمشاعر الحنونة الهادئة، بأمنها وأمانها، وبسلامة النفوس والقلوب من الأحقاد، وبالتعامل باللين والحكمة والعقلانية، وبأسلوب التبشير بالخير. فهي الرسالة الخالدة التي نسأل الله تعالى أن يجعلها آخر رسائل الحياة، وأن يرشدنا فيها لنكون أصحاب أثر جميل نختم به صور الحياة الدنيا.
رسالة العطاء التي نتابعها عن كثب من خلال حسابات وسائل التواصل الاجتماعي لأبناء غزة، الذين لم يتوقفوا لحظة واحدة عن العطاء والمغامرة بأنفسهم تحت قصف الطائرات والمدافع والبنادق. وهم يعملون الخير، ويساهمون في نجدة أحبابهم وأهل بلدهم، بطبخ وتوزيع الطعام، وتوزيع المساعدات ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فضلاً عن «جمال الروح» التي يتعاملون بها، رغم الظروف المأساوية التي يمرون بها، وحالة الفقد التي تتكرر لهم في كل لحظة.روحهم الجميلة التي تجعلهم، في أحيان كثيرة، يبتسمون، ويتحلّون بالقوة، والصبر، والمصابرة، والعطاء في كل حين. العطاء الذي لا يُقدّر بثمن، وهو البلسم الشافي لأمراض الحياة، وهو الذي يُعطيك البركة في الأعمار والأوقات، وهو الخير الذي لا ينضب معينه، وهي الرسالة الجميلة التي يجب أن يفهم معانيها كل من عاش لتحقيق رغبات الحياة فقط.
ومضة أمل:اللهم الطف بأهلينا في غزة، وآمِن روعاتهم، وتقبّلهم عندك في الصالحين.
0 تعليق