الأمير الإنسان.. قصة وفاء بلا حدود

الوطن البحرينية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

غازي الغريري

كنت حاضراً عصر يوم الثلاثاء الماضي في مقبرة الحنينية لوداع ودفن ابن صديق عزيز توفاه الله قبل ثلاثة أعوام، عشنا مع بعضنا أياماً جميلة في تسعينات القرن الماضي خلال الدراسة في المرحلة الإعدادية في مدينة عيسى، وكنا جيراناً بل أهلاً، بيوتنا كانت واحدة ومفتوحة وكنا نعيش في «فريج» واحد تجمعنا فيه المحبة والأخوّة مع جيران مازلنا نتشارك معهم ذكريات طيبة لا تنسى. رحل ابن صديقي رحمه الله وهو في ريعان شبابه، وكان قضاء الله وقدره في حادث مؤلم في المملكة العربية السعودية، ولا اعتراض على أمر الله. كانت الأجواء في المقبرة مكتظة بالناس ومشحونة بالحزن، فقد كان هناك أربع جنازات، صلينا عليهم رحمهم الله تعالى برحمته الواسعة، كل من في المكان كان غارقاً في صمته وتأمله والدموع والصيحات نسمعها حولنا أثناء دفن الموتى، مشهد ولحظات لا تُنسى نتذكر فيها بأن هذا الطريق كلنا سائرون فيه، وهذه سُنّة الله في خلقه، فالموت حق على الجميع، فقد قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: (كل من عليها فانٍ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام).

بعد الانتهاء من الدفن كنت أسير بكل هدوء وأنا أنظر للقبور وأتأمل وأدعو لهم بالرحمة والمغفرة، وبداخلي أقول «أنتم السابقون ونحن اللاحقون»، وبينما كنت أتلفت حولي لمحت عاملاً آسيوياً بسيطاً قد يتجاوز عمره الخمسين وكأنه يبحث عن قبر أحد أقاربه أو صديق عزيز له، ولكنه سألني أهذا قبر المغفور له بإذن الله تعالى صاحب العظمة الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه، قلت له نعم هذا قبره، وقف بكل خشوع يقرأ الدعاء بعينين دامعتين. حقيقةً، استوقفني هذا المشهد، فقد بدا الرجل وكأنه يقف أمام قبر والده. سألته بعد أن انتهى، لاحظت تأثرك وأنت تدعو أمام القبر. فقال لي إنه يعمل في البحرين منذ أكثر من ثلاثين عاماً حينما كان صاحب العظمة حاكماً للبلاد. وقال: «كان أباً لنا جميعاً، لم نشعر يوماً بالغربة في هذا الوطن». كلمات بسيطة لكنها حملت في طياتها مشاعر عظيمة لا يمكن وصفها تؤكد على تواضع وطيبة الأمير الراحل طيّب الله ثراه.

هذا الموقف ترك في داخلي أثراً عميقاً يدلّ على كم هو عظيم أن يترك أي إنسان أثراً في نفوس الناس وحتى إذا لم تربطهم به أي علاقة مباشرة، فما بالك بحاكم أحبّه هذا العامل الآسيوي البسيط. بكل تأكيد إنها الرحمة وحسن المعاملة التي شعر بها وهو في البحرين بعيداً عن بلاده وأهله.

إن وفاء هذا العامل شهادة حيّة على الأثر الإنساني العميق الذي تركه صاحب العظمة الأمير الراحل في نفوس الناس من مواطنين ومقيمين، وهي مشاعر صادقة تذكّرنا بأن عظمة الإنسان لا تُقاس فقط بما يملكه، بل بما يزرعه من حب ووفاء في قلوب من حوله. فرحم الله صاحب العظمة الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة برحمته الواسعة، وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين.

كان مشهد ذلك العامل الآسيوي، وهو يقف بخشوع أمام قبر صاحب العظمة طيّب الله ثراه، مليئاً بالمعاني الصادقة التي يصعب التعبير عنها، كان نابعاً من قلب بسيط مملوء بحب ووفاء صادقَيْن. إن ما دفعه للوقوف والدعاء هو سيرة طيبة وذكر عطر تركه صاحب العظمة الأمير الراحل في نفوس من عاشوا في عهده. كانت لمسة وفاء حقيقية تُجسّد أثر القلوب الطيبة في حياة الناس وذاكرتهم، فطيب الذكر لابد له من أن يتزامن مع طيب الأثر. هذا ما تركه صاحب القلب الكبير الأمير الإنسان الذي جمع القلوب من حوله وأجمعت على محبته، حيث كان رحمه الله مثالاً للقائد الإنسان بأخلاقه الرفيعة التي أرست علاقة وطيدة بينه وبين شعبه وحتى المقيمين، وما وفاء هذا الآسيوي إلا أكبر شاهد على هذه المحبة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق